أنفاس صلَيحة.. مرة أخرى
أعالج هذه المرة نصاً من شأن التنمية.. وبناء القدرات.. شراكة سمها مع الخليج أو غيره من شراكات التنمية..
وجهاز صغير إلى جنبي ..يبث نغمات وكلمات .. اشتقت ليك ساعة المسا فرد الجناح.. شوق اليتيم غلبو البكا .. والعبرة سدّت في الحلق.. من كم سنه سرج النياق في ليل وحاتك دون خبر.. مديت معابر شوقي ليك ..وحنين حنيني الطاغي ليك.. وفي اللحظة ديك اشتقت ليك واحتجت ليك .. قصة الجدة صليحة تنتابني.. إنه اسماعيل حسن.. إنه محمد ميرغني.. يغنيان.. لليتيم .. غلبو البكا.. لكن عمر فضل الله ايضاً.. في أنفاس صليحة..
أنفاس صليحة.. قصة من التيليباثي (التخاطر) عبر التاريخ.. الصحراء.. رحلات الحجيج.. قصص مملكة غابت عنها الشمس.. لكن .. لا زلنا نذكرك أيتها الجدة ..أيتها اليتيمة الغريبة.. نكاد نوقظك مرة أخرى لتحكي لنا عيان وبيان.. قصتك.. أتذكرين حين تخرجين كل يوم إلى أطراف البلدة تنتظرين عودة أبيك وأمك الذين لم يعودا ولن يعودا. فبقيت يتيمة.. جدّك كان يعلم فاجعة اليتم لصبية مثلك. لكنه سار جدك في رحلة الحج. ثم انفطر قلبه عليك وحزن لفراقك. جلس يبكي عليك كما لم يبك في حياته قط .. عاد من الحج لم يجدك.. علم ايتها اليتيمة أنك قد غادرت المكان تبحثين…ثم عاد منفطر القلب من حيث أتى. ..
تركضين لاهثة.. تلتحقين بقافلة.. يحذرك دليل القافلة من العقرب والثعبان في الصحراء، ومن تقليب الصخور. الحذر في كل خطوة. وفي ليلة ظلماء شيء ما يقترب منك. أنفاسه .. أنيابه الطويلة. لا تخافين ثم ترينه يقفز بعيداً .. ينطلق مبتعداً مذعوراً… وفي ليل الصحراء تثور الرمال.. حفرة في الرمل تجلسين فيها وتتدثرين بالثياب ولما تنهضين لا تجدين أحد هناك. آه لقد ذهبت القافلة منذ مدة .. أحسست هذه المرة برعشة تسري في أوصالك.. وعندما خرجت من مكانك إلى أعلى التلة.. يباغتك أحد ويربط قدميك ويعلقك مقلوبة من قدميك.
ثم تعجبين .. يعود الرجل يفك أسارك، يلحقك بقافلة تنطلق شرقاً عند الفجر.. امرأة في القافلة تعرف أنك تسيرين وحدك.. فتضمك إليها في المسار الطويل. تصلين إلى سوبا ووأيام تقضينها طريحة الفراش بعد عناء الرحلة.. ثم تخرجين وتسيرين في طرقاتها… في أسواقها .. هي خليط من الألوان والأجناس والأنفس والقبائل.
في سوبا ..تسألك زوجة عبدالله جماع إمرأة. من أنت وماذا تريدين؟. تجيبين ابحث عن جدّي جئت إلى هذه البلاد أبحث عنه يا «عائشة»!. كل يوم تطوفين شوارع (سُوبَا) وتنتظرين القوافل لعله وجه جدّك بينها.
وسنة كاملة يمضيها جدك .. مرافقاً قافلة الحج في سيرها الطويل المضني..يهاجمهم قطاع الطرق.. تتفرق القافلة ويفقد جدك أشياءه الثمينة.. يعبر البحر جدك ، ويذهب حاجاً .. يسأل الله أن يجمع بينك وبينه حفيدته «صُلَيْحَة». صليحة كانت كل همه.. كل دعواته وصلواته صليحة.
يعود جدك الحاج عبدالحميد اللقاني.. تقابله قافلة من (سُوبَا) يخبرونه بحصار المدينة.. ويحدثونه عن فتاة تعترض القوافل تسأل عن جدها.. (هوي ما شفتوا لي جدي عبدالحميد) .. يشد العزم يصل بعد اشهر ثلاث إلى (سُوبَا). لا يرى سوى الأطلال والخرائب . يصلي العشاء ثم يتوسد ذراعه لينام.
يتيم آخر .. عبدالسميع فتى يخدم القافلة. هو الآخر فقد الأب والأم في الوباء .. يحلم ببلاد مثل الجنة (أصلو ما معروفة وين).. صاحب جدك في رحلته شرقاً.. ثم فارقه في منتصف الرحلة إلى بلاد (النوبة).. ذاك أيضاً حين هاجم اللصوص القافلة كان عبد السميع من بين أولئك الهاربين.. تنتهي رحلة عبدالسميع إلى سوبا.. يلقاك.. فتتزوجينه.. لا أنت ولا هو يعرف .ز أنه رفيق جدك.. لكن اللصوص اضاعوه..
جدك ..يصلي العشاء ثم يتوسد ذراعه.. يستيقظ ليلاً.. فيرى شبحاً جاء يمشي نحوه.. رغم الظلام تشبه مشيتة الفتى عبد السميع.. إنه هو.. يهرع نحو جدّك الحاج ويعانقه. ثم يستضيفه عنده هناك في مشارف بادية (البُطَانَة). يقودان جمليهما .. يتحدثان .. ابحث عن حفيدتي. فإذا بك تخرجين من الخباء يا «صُلَيْحَة»! فيراك أمامه، فيفاجأ بك وتفاجئين به أمامك بقامته الفارعة، وثوبه الأبيض الجميل.
كلاكما أصابته صاعقة الدهشة. حين رآك ترنح وكاد يسقط. ثم تماسك فبقى واقفاً. هو غير مصدق. وأنت لا تصدقين، لكنك تركضين في جنون صوب ذراعيه المشرعتين لاحتضانك. نعم يا جدّي. روحي رأتك فعلمتُ أنّني سوف ألقاك. وبحمد الله رؤيتي قد تحققت فرأيتك على الحقيقة. ..
ثم ها أنتما ترقدان ابدياً .. قبران مجهولان في سكون أبدي، تسفي عليهما الرياح وتهطل الأمطار. تبنت شجيرات من الأكاسيا .. وعلى أديمهما قطاة تبيض .. ثم تطير مع أفراخها إلى جهة مجهولة. .. يمر النّاس بهما ولا يعرفون اسماً لصاحبيهما، فقد مات كل من كان يعرفهما. لكنهما مازالا هناك متجاورين، لا يشهدان تقلب الفصول، ولا تعاقب الليالي والأيام، فذلك لم يعد يعنيهما في شيء، ولا ينتظران أحداً يمر ليلقي التحية أو يرفع يديه بالدعاء، فقد مات كل من عرفهما…
الآن.. من بعث هذا الحفيد بعد طبقات من التاريخ .. يناديك.. يخاطرك.. وتخاطرينه.. يسائلك.. ..يقرأ خواطرك.. وقصتك عبر الصحراء.. الرمال.. القوافل.. سوبا.. عبدالسميع.. عبدالله القرين.. ينطوي الزمان..
وجدك.. يا صليحة.. لا تشائين أن تفاريقنه.. حتى الممات.. تلحقين به وترقدين إلى جواره.. قبران .. صامتان .. تشرق عليهما الشمس كل يوم.. تبث شعاعها وحرارتها. تنبت شجيرات الأكاشيا.. طائر القطا قرب القبرين يتخذ مفحصاً.. يضع بيضه.. يكير يغادر عشه في إقلاعه المعهود..
القمر ياتي مساءا.. يصيب الصحراء منه سحر وسكون.. يظل القبران صامتين.. .تدور السنون.. تروح أجيال.. لا أحد.. يذكر صليحة وجدها.. إلا هذا الحفيد.. الذي اسمه اسمه عمر.. وهذا القارئي.. يكاد يوقظك.. فلتنامين.. وسلام عليك وعلى أمم ممن معك.
وحدك هناك عبر المدى ما سامعه صيحات اليتيم.. بيموت وحيد في الضلمه زي موت الصدى.. وبقيتي إنتِ هناك براك.. زي الفنار الواقفه في قلب الغريق . مديت معابر شوقي ليك..
الصادق 15 مايو 2017
اضف تعليقا