بتُ أزداد يقيناً في كل لحظة تفكير عابرة أو عميقة أنَّ أكبر خطر تواجهه بلادنا هو غياب الرؤية الإستراتيجية، والنظرة الشاملة التي تتجاوز التفكير في الذات والنزوات، وبتُ أكثر قناعة بأن المخرج من حالة “الغيبوبة” و” اللّوثة” التي نعيشها الآن هو التحرر من طُرق التفكير التقليدية في بناء الإستراتيجيات والسياسات وإعلان التمرد والثورة والعصيان المدني على هيمنة العقل الرعوي الذي يعتقل الأفكار ويمنعها من التحليق في فضاءات حرة ، ذلك العقل الذي يعتبر الحداثة رجز من عمل الشيطان عندما تقْصُر عنها همتُه الدانية، وتعجز عن استيعاب مكنونها (ذاكرته) البالية…أقول ذلك وفي البال الفرصة الثمينة التي ضاعت من السودان في تسعينات القرن الماضي للدخول مبكراً عصر التكنلوجيا والحكومة الإليكترونية على يد العالم الجليل الدكتور عمر أحمد فضل الله (أبو سهيل)، شقيق الكاتب الصحافي إسحاق والذي اُبعد مُرغمًا من بلاده لتنهل من علمه بعض دول الخليج التي أصبحت الآن مثالاً لثورة التكنولوجيا، وأقول ذلك أيضاً وفي الحلق غُصة وفي البال قصة عالم برنامج الجودة الشاملة السوداني البروفيسور هادي التجاني – أحد 6 علماء في الكرة الأرضية متخصصين في هذا البرنامج – والذي غادر السودان مغاضبًا بعد أن سدَّ (العقل) الرعوي الطريق أمامه وحال دون تطبيق البرنامج في السودان، وهو الذي قامت على يديه نهضة دولة الإمارات بشهادة الشيخ زايد وعلى لسانه أكد ذلك للرئيس البشير، وهذه قصة سنأتي للحديث عنها لاحقاً…
أتذكر كل تلك التراجيديا المحزنة وأنا أتابع بشيء من الأسى حديث بعض مسؤولينا واتجاهات تفكيرهم في إنشاء (مطامير) لمعالجة مشكلة التخزين التي انفجرت مؤخرًا بعد أن منَّ الله علينا بإنتاج وفير من الذرة في هذا العام…انظروا معي إلى العقل الرعوي وطرق تفكير القرون الوسطى عندما قال قائل منهم يومها:( السودان يمتلك تجربة ثرة في مجال التخزين في “المطامير” وهذا النظام المجرب لعشرات السنين هو الخيار الوحيد لشراء محصول الذرة وتخزينه لبناء مخزونات استراتيجية ضخمة)..يعني أصبحت المشكلة – بسبب سيطرة العقل الرعوي- أن هناك إنتاجاً وفيراً يلازمه ضعف في التسويق وضيق في مواعين التخزين، وتخلف في طريقة التخزين نفسها..!!!
وطبقا للفكرة العبقرية تم الإعداد لـ (ورشة عمل كبرى) لعمل المطامير – بس دا الفالحين فيهُ – وقد طُرح عطاء كبير للشركات (الوطنية) للتنافس في تجهيز المطامير لتخزين (30) ألف جوال من الذرة في المناطق التي تم تحديدها بولاية القضارف على طول الطريق في منطقة وديدة…
المهم أن فريق عمل من المتخصصين أجرى اللازم بشكل علمي – كما تقول الجهات الرسمية – (ولا تزال آليات البوكلنق تعمل بكفاءة ) – لكن المزارعين هناك ما زالوا يتندرون بأن الحكومة دقست وعملت المطامير في (الميَعة) ولو صح ما قال به هؤلاء فإن حجم الكارثة سيتضاعف ولا نملك إلا أن نقول اللهم أجرنا في مصيبتنا وأخلف لنا خيراً منها ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، لأنه لا يمكن لبني آدم عاقل (يحفر) مطمورة في ميعة فهذا يعني تلف المحصول بنسبة مائة بالمائة، وأرجو أن تكون هذه من الطرائف التي تضاف إلى (نكتة) المطامير في زمن التكنولوجيا الحديثة.
× نبضة أخيرة:
لما فتح المسلمون بلاد فارس وُضع بين يدى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه سيف كسرى ومنطقته وزبرجده فقال: إن أقواماً أدوا هذا- يقصد تلك المغانم- لذووا أمانة, فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان حينها يجلس بجواره: إنك عففْتَ فعفَّتْ الرعية.
المصدر: صحيفة الصيحة عدد 4 مارس 2015
http://assayha.net/play.php?catsmktba=3255
اضف تعليقا