ما انقشع العام الأول لما اصطلح على تسميته بالربيع العربى ، إلاّ وقد زالت أنظمة كان الإعتقاد أنها راسخة لا تهتز ، ولن تتغير ، وكانت تلك الأنظمة قد أحاطت أنفسها بمنظومات من الأعراف والتقاليد والقوانين التى تحكم : قضايا توزيع السلطة والثروة ، ومسألة تداول السلطة ، وقضايا الشرعية السياسية ونظم الحكم وفي كل تلك القضايا المرجعية، لم يكن الحكم رضائياً بتفويض من الشعب، بل تصرفت الأنظمة الحاكمة وفق مبدأ القوة والاستحواذ، وتوسلت لتحقيق ذلك بتراتيب جبرية قهرية ، وانحصر تداول السلطة في يد أقلية منسوبة إلى الأنظمة الحاكمة ، ونُهبت الثروات ومقدرات الأمم بذات المجموعات النافذة الحاكمة أو بطانتها. فكانت السيادة للاستبداد السياسي، والفساد الإقتصادي والظلم الإجتماعي.
هذا على الصعيد الداخلي ، وأما على الصعيد الخارجي فقد كانت تلك الأنظمة تحمي مصالحها من خلال شبكات من العلاقات الإقليمية والدولية ، والتحالفات الثنائية والمتعددة الأطراف ، فضلاً عن مجموعات من الإتفاقات في شتى الجوانب. ولم تكن تلك الأنظمة، في سبيل حماية مصالحها لتنحرج أن ترهن سيادة البلاد واستقلال القرار ، بل وثروات الأوطان، تبذلها لضمان استمرارها وبقائها، وكانت السمة المائزة لنمط الحكم أن السياسات والمواقف
السياسات والمواقف كانت تمليها النخب الحاكمة حسب مصالحها ، دونما اكثرات لشعوبها ، فلا عجب أن ثارت الشعوب وأطاحت بالانظمة . وكانت النتيجة الطبيعية المتوقعة من تلك الثورات أن تسقط المسلمات السائدة والنماذج القديمة لتنشأ محلها نماذج وأنماط جديدة في الحكم ، وعندي أن ذلك هو جوهر التحدي الذي يواجه الثوار والثورات.
ما بعد التغيير .. وإشكال النماذج المستعارة
- الهبات الشعبية التى أطاحت بالأنظمة القديمة واستبدلتها بأنظمة جديدة ، كانت تنشد فى المقام الأول التحرر من الإستبداد السياسى ، وباستثناء مسألة الحرية السياسية ، فإن حركات التغيير جميعها كانت بلا مضامين ولا برامج ، شهدنا ذلك فى كل البلاد التى انتصرت فيها الثورات الشعبية . فالنخب السياسية إسلامية كانت أو علمانية أبدت ارتباكاً واضحاً حول قضايا ما بعد جلاء الديكتاتورية ، مثل قضايا الانتقال والتحول الدستورى . فكأنما انتظمت الحرية ولم تنتظم الخيارات الجديدة بعد .
- وإن كان ثمة نوع من الإجماع في الدول المتحررة على الديموقراطية أسلوباً للحكم فإن الحوار حول مضامين هذا الهدف والأشكال العملية للتعبير عنه ، وهي متعددة ومتنوعة ، وأى هذه الاشكال هو الأنسب لهذه الدولة او تلك ، أو هذا المجتمع أو ذاك ، لم يتبلور بصورة مرضية ، وإنما اندفع الجميع يتبعون في عجالة الأشكال والنماذج الجاهزة للتعبير الديموقراطي، وبصفة خاصة النموذج الليبرالي النيابي . والنظرة المتأملة فى التجارب المعاصرة للدول التي انتهجت هذا النموذج ، تشي بأن مخرجات العملية الديمقراطية ليست بالضرورة هي أحكم المخرجات ولا أعدلها ، وأنها قد لا تعبر عن أكثرية الشعب ، بل تعكس في كثير من الأحيان رغبات أقليات نافذة ، ومصالح مجموعات ضيقة ، بل إنّ الآليات الإنتخابية التي تختار النواب ورأس الدولة تنتج في كثير من الأحيان المفضول دون الفاضل .
- ولم يكن الامر مختلفاً عما أسلفنا على صعيد النظام الإقتصادي، فتبنى الثوار مرة أخرى بدون كثير تحفظ النموذج الغالب فى عالم اليوم ، وبصفة خاصة أنموذج السوق الرأسمالي التنافسي الحر . ومعلومٌ من النظرية الاقتصادية الرأسمالية أن آلية السوق الحر التنافسي تقوم بدور حاسم في إعادة توزيع الثروة في المجتمع ، وأن إعمال تلك الآلية في اقتصاد تتفاوت فيه الدخول ، مثلما هو الحال فى مجتمعاتنا العربية ، يعيد توزيع الثروة بشكل يعزز التفاوت الحاصل ابتداءًا ، فيزداد الأغنياء غنىً والفقراء فقراً ، وتتركز الثروة فى أيدى القلة ، والنتيجة المتوقعة لتركيز الثروة عند مجموعة من الناس دون غيرها أن يتعاظم وقعها السياسي وأثرها على صناعة القرار ، وتنحسر بالتالي قدرة الأغلبية الجماهيرية في التأثير على واقعهم السياسى ..
- وعلى المستوى المجتمعي فإن التغيير الثوري الناجح هو الذى ينقل مقاليد السلطة والثروة ومقدرات المجتمع من أيدى القلة إلى الأكثرية ، في إطارٍ من نظرية إجتماعية ترسم الحدود بين السلطة التنفيذية ومؤسسات المجتمع لصالح هذا الاخير ، وتبتدع الآليات لتمكين المجتمع من الوفاء بحاجاته دون كثير تعويل على آلية السلطة ، وتلك أهداف يصعب ، بل يستحيل أن تتحقق في ظل الأنماط الإقتصادية والسياسية التي تضع مقاليد السلطة والثورة في أيدي الأفراد والصفوة . فضلاً أن المجتمعات العربية موبوءة بالطائفيات والمذهبيات والعصبيات القبلية والجهوية ، وكلها مما يؤثر سلباً على عاقبة تلك المجتمعات ، لأنها ، أي تلك الأمراض، تهدم مباديء المساواة والمواطنة، والعدالة والحرية، وتعرقل السعي نحو الإجماع الوطني والوحدة، وهما شرطان لازمان لأي نهضة مجتمعية. فإذا انضاف لذلك توزيع مخل للثروة والسلطة (بتغيير)!! النظام السياسي والاقتصادي الذي رغم جريته الظاهرية يعزز تركيز المال والسلطة، فلن يبقى بعد إلا مجتمعاً معوزاً موبوءاً عاجزاً عن مداواة أمراضه، ناهيك بالإنطلاق إلى آفاق النهضة.
- وأما علي صعيد العسكرية والدفاع فقد سادت المدارس العسكرية الغربية ، فالجيوش العربية الحديثة هي نسخ من نظيرات لها غربية ورثتها دول المنطقة من زمن المستعمر ، فالعقيدة العسكرية ، ونظم التدريب ، والترقي ، والعلاقات الرأسية التراتبية ، والعلاقات الأفقية هي في جملتها مما خلّفه المستعمر ، ، وهي نماذج تعكس ما في مجتمعاتها الأم من ثقافات ، حتي الطبقية الإجتماعية التي ما زت تلك المجتمعات وحدت التعبير عنها في نظمها وتقاليدها العسكرية ، وهي ذات النظم التي نجحت بعد ذلك لتتوطن في البلدان العربية . ومن تفاصيل تلك (….) أن المؤسسات العسكرية في البلدان العربية هي أكثر المؤسسات علمانية ولا تعبر عن بيئات وتقاليد المجتمعات العربية وأعرافها. وهي بالجملة نبت غريب على المجتمعات العربية المسلمة ونموذج أستزرع فيها ليس له في أرضها جذور .
- وأما علي مستوي الأمن والمخابرات فقد نشأت في مجتمعات العرب نماذج لأجهزة أمنية جعلت هدفها الأول حراسة الأنظمة الحاكمة ، قبل حماية الأمن القومي ، وصنعت لأنشطتها نظماً وقوانين خاصة تجعلها فوق المساءلة ، ثم تخللت أجهزة الدولة فصارت دولاً داخل دول ، وفي غياب المساءلة تعددت تجاوزات الأجهزة الأمنية ، وأصبحت أذرعاً للفساد والإفساد ، ونشأت في ظل هذا الوضع الكتيب نظريات الأمن القومي المبنية علي فكرة المهددات ، وهي نظريات محافظة غايتها حماية الأوضاع الراهنة ، والثورات العربية تعرف الأجهزة الأمنية فوق ذلك أدوات للقمع والبطش ، ولم تكن هذه الأجهزة إلا نسخاً من نظيرات لها في الدول الشمولية الغربية أو المستغربة خاصة دول المعسكر الشيوعي السابق.
- والثورات العربية تفجرت وأمامها في بلدانها التزامات خارجية متحكمة ، ونماذج مؤثرة ، ليس أدل على ذلك من واقع القضية الفلسطينية الممتد لسنوات بل عقود من التعاطي العربي والدولي معها ، إتفاقات سلام ، والتزامات ثنائية وإقليمية ، وقرارات دولية عدة ، نشأ أغلبها والعالم العربي يحكمه طغاة ، وبعضها مثل اتفاق كامب ديفيد ما كان ليتأتى لولا تغييب الشعوب في ظل أنظمة الإستبداد .
ولم تغير الإتفاقات والمعاهدات والقرارات من طبيعة الدولة الإسرائيلية بل عززتها ، ولم تتقدم بالقضية الفلسطينية بل عطلتها ، بيد أن الثوار حتى يومنا هذا يؤكدون احترامهم للمعاهدات والإتفاقات الدولية التى أنتجت نموذج الدولة الفلسطينية الكسيح ، وليست القضية الفلسطينية إلاّ واحدة من النماذج المختلة في مسرح العلاقات الدولية ، وغيرها أمثلة عِدة .
- إلا أن التحدي يظل قائماً أمام كل دول الربيع العربي ، أن تدير الحوار الداخلي حول القضايا التي تفجرت بعد نجاح الثورات ولما تحسم بعد ؛ قضايا الهوية ، والتعددية الدينية والإثنية ، ومسألة توزيع الثروة والسلطة ، وشكل النظام السياسي الذي يتواءم مع المكونات الثقافية والإجتماعية لكل بلد ، ويضمن توزيع السلطة بالشكل المنشود ، والنظام الإقتصادى الذي يتوافق مع مكونات المجتمع الفكرية ومعطياته الثقافية ، ويضمن التوزيع الأعدل للثروة ، ثم أنَ تصنع لنفسها مكاناً في العالم الحديث المتشابك والمتواصل من جهة ، والمتصارع من جهةٍ أخرى ، يُعلي المباديء ولا يهمل المصالح ، ويصنع نموذجاً جديداً للعلاقات الدولية نموذجاً يرفض ويرعى الحرية للأفراد والجماعات، ويصون حقوق الإنسان والمجتمعات، ويشيع العدل والمساواة ، وينبذ إزدواجية المعايير ويأخذ بأيدي المستضعفين، تهديه في كل ذلك قيمة وحدة الإنسان في الأصل والمصير.
- ونخلص في الختام، عطفاً على ما قدمنا به المقال، أن الثورات العربية رغم نجاحها في إزالة الاستبداد افتقرت للبرامج والمضامين التي تحكم ما بعد التغيير، فراحت تستنسخ نماذج جاهزة مستوردة في الحكم والاقتصاد، أفرغت فيها روح الثورة وجهد الثوار، وهي نماذج مترعة بالنواقص والعيوب ، وليس بدٌّ من الإعتراف بأنها ، أي تلك النماذج، لن تفي بحاجات الثورة ، ولن تنتج نهضة حقيقية، وأنه ليس بد من ثورة ثقافية شاملة ، ورؤي أصيلة ومتجددة تنتظم فيها باتساق نظريات الحكم مع نظريات الأمن القومي ، مع النظريات الإقتصادية والإجتماعية ، ونظريات العلاقات الخارجية. ثم إعمال الجهد لتتحول تلك الرؤى والحوارات إلى سياسات وبرامج عملية لإنجاز التحول ، وإكمال مسير ة التغيير .
- وجملة ما أشرنا إليه إنما يثير الأسئلة دون أن يتكلف الأجوبة ، ويرسم مجرد مؤشرات ومفردات أولية وأساسية لمشروع بحثي كبير ، نأمل أن يساهم في الحوار الذي نثق بأنه سيثري بمفرادته وبمضامينه الهدف الأسمى لمسيرة التغيير ، وينتج مشروعاً نهضوياً ونماذج جديدة وأصيلة في السياسة والإقتصاد والإجتماع ، والحكم بمعناه الأوسع .
اضف تعليقا