الروائي عمر فضل الله في حديث للرأي العام حول روايته الجديدة (أنفاس صليحة) والفضاء الروائي العام عربياً وعالمياً وسودانياً
أجراه عيسى الحلو:
عمر فضل الله روائي وشاعر، ومفكر. متخصص في تقنية المعلومات. يعمل مديراً لمشاريع تقنية المعلومات وأنظمة الحكومة الإلكترونية والذكية بدولة الإمارات العربية المتحدة
من أعماله:
- دواوين شعر:
(زَمَانُ النَّدَى والنَّوَّار) (1428هـ – 2007) - (زَمَانُ النَّوَى والنُّوَاح) (1431هـ 2009).
- روايات:
- “تُرْجُمَانُ المَلِكِ”(1435هـ- 2013)
- “أطياف الكون الآخر” (1436هـ -2014)
- “نيلوفوبيا” (1437هـ 2016)
- “أنفاس صليحة” (1438هـ – 2017)
- “تشريقة المغربي” (1438هـ – 2017) غير مطبوعة
- أعمال أخرى:
- “حرب المياه على ضفاف النيل – حلم إسرائيل يتحقق”(1435ه-ـ 2013)
- “تاريخ وأصول العرب بالسودان للفحل الفكي الطاهر: تحقيق ودراسة” (1437هـ 2015).
- له مقالات وبحوث منشورة في عدد من المجلات والدوريات العالمية.
لماذا اخترت الرواية كجنس تعبيري لمشروعك الأدبي والفني؟
الناس يحبون الحكايات بالفطرة. منذ الصغر كنا نسمع أحاجي (الحبوبات) قبل النوم، نسمعها مهما تكررت وقد نحفظها من كثرة التكرار لكننا رغم ذلك لا نمل سماعها. وأنا اخترت الرواية لاحتوائها على عناصر التشويق والمتعة والجمال وبذلك فهي تصلح وسيلة ناجحة لتوصيل رسالتي الأدبية والفكرية إلى الأجيال الحالية واللاحقة.
بدأت بالشعر. لماذا تركته؟ هل لأن هذا هو عصر الرواية؟
لم أترك الشعر فله مناسباته ومحبوه وقد أشربت حبه منذ الصغر لكن لم تعد له مثل مكانته القديمة ولا رسالته وأثره في نفوس شباب اليوم وبهذا فلو قلت إن هذا هو عصر الرواية فلن تكون قد أبعدت النجعة، رغم أن الشعر لا يقوم مقام الرواية ولا الرواية تقوم مقام الشعر فلكل جنس من هذه الأجناس الأدبية رسالته وعشاقه.
اتجه الكتاب الشباب لكتابة الرواية لأنهم يعبرون عن مأزقهم الموجود بإتقان كامل وهذا ما لا يسعف الكتابة الشعرية؟
هذا صحيح فالشعر يقيدك بالقافية والوزن والتفعيلة ويضعك في قالب أضيق من قالب الرواية ولهذا فليس كل الناس يقول الشعر فله ملكة خاصة لكن كثيرين يمكنهم كتابة الرواية لوصف واقع أو لمجرد الجنوح إلى الخيال هروباً من الواقع أو تمرداً عليه.
ماذا عن المشهد الروائي السوداني الآن؟
نحن نشهد انفجاراً مدوياً في كتابة الرواية في السودان لم نعهده من قبل فقد كان الروائيون في السابق يعدون على أصابع اليدين لكننا بتنا نشهد ظهور أعداد مهولة من كتاب الرواية كل عام بل أصبحنا نقرأ لروائيين سودانيين ينافسون الروائيين العالمين فيحوزون الجوائز وتتحدث عنهم المجالس الأدبية وتنتشر أعمالهم في وسائط التواصل الاجتماعي والصحف السيارة. كما أن الجوائز الأدبية قد أشعلت لدى الشباب روح المنافسة وحفزتهم على الكتابة والاتجاه لهذا النوع من الأدب، وقد يكون اتجاه الشباب والروائيين لكتابة الرواية والإقبال على قراءتها هو مجرد هروب من الواقع إلى عوالم الخيال والوهم والفانتازيا والأحلام.
هل أنت مع المقولة التي تجعل من الطيب صالح سقفاً للرواية؟
لا أعتقد أن للرواية سقفاً نضع فوقه كاتباً روائياً وينتهى الأمر ولا أعتقد أن الطيب صالح أو غيره هو سقف الرواية فالطيب صالح هو أحد الرواد بلا شك وهو أيقونة ضخمة من أيقونات الرواية العربية لكن المشهد الروائي الحديث يقول لنا إن هناك عظماء كثيرين من الروائيين السودانيين يكتبون في زمانهم مثل ما كتب الطيب صالح في زمانه أو ربما يتفوقون.
لماذا اخترت التاريخ إطاراً روائياً لأعمالك؟
عندي مشروع روائي ثقافي معرفي أريد أن أقدمه للعالم فقد رأيت عزوف شباب اليوم عن قراءة تاريخهم وحضاراتهم فوجدت أن أنسب الوسائل لربط الأجيال الحديثة بتاريخنا القديم وحضاراتنا يكون عبر كتابة الرواية التي يحبها الشباب وتجمع بين الخيال والحقيقة في وعاء واحد فتقدم الحقائق التاريخية لهذه الأجيال مغلفة بجرعة الخيال الذي لا يطغى على الحقائق حتى لا تشوِّه الرواية، أويذهب بجمالها وبهائها وإنما يتسرب خلالها كالماء الذي يروي الزرع. والجديد في مشروعي هذا هو أنه يأخذ وظيفة الأدب إلى توثيق التاريخ المحلي عن طريق السرد الأدبي بشكل يتداخل فيه الأدب مع التاريخ والبعد الإنساني معاً.
عالمك الروائي ينهض على أرض الفكر وليس التجربة الوجودية الحياتية المباشرة؟
بكل تأكيد فحين يكتب كثيرون منطلقين من تجاربهم الحياتية وإسقاطاتهم لمغامراتهم الشخصية والنفسية أقوم ببناء عالمي على مشروع فكري محدد الأهداف والمنطلقات عبر كتابة روايات معرفية تجمع بين الفلسفة والتاريخ الحقيقي والعجائب وتقدم أنموذجاً شاخصاً للرواية المعرفية كجنس أدبي متفرد بحضوره السردي، على طريقة عمر فضل الله التي توظف الرواية لتعكس لنا عالماً حقيقياً لكنه مسكون بالخيال، وتمثل تياراً من الواقعية السحرية التي تعتمد على العجائبية والخوارق ولكنها تبتعد بها عن عالم الكرامات والتصوف المعهود وتقدمها كموروث شعبي يعيد توظيف الحكايات الشعبية بفهم جديد عبر شخوص وأسماء ذكية تحترم ذكاء القاريء ووعي المجتمع الحديث. ولا بأس أيضاً من توظيف الأسطورة في إطار النسق المعرفي الكامن في المقولات الشعبية وحكايات التاريخ الشفاهي لنعود بها من كونها مجرد حكايات للتسلية والمتعة إلى كونها حكايات تؤيد التاريخ المحكي وتضيف لأدب الرواية وذلك من أجل إعادة تشكيل هوية معاصرة في زمن متحول ونقلها من خانة التصورات التاريخية الظرفية، إلى خانة الحكايات ذات الأصول التاريخية التي تقبل الدراسة والتمحيص وتتسق مع حقائق التاريخ.
الرواية الآن في كل ثقافات العالم المعاصر تحاول الخروج من عباءة السرد الكلاسيكي؟
الناس يحبون الجديد ويميلون للتجديد في شئون حياتهم، والرواية كأحد أنماط التعبير الأدبي لا تخرج على هذه القاعدة ولذا فالخروج عن عباءة السرد الكلاسيكي يكون مقبولاً في حال تمكن المؤلف من تجاوز عقدة الخصائص الفنية الروائية دون إخلال بجماليات السرد لكن قليلاً من الروائيين من يفلح حقيقة في الخروج عن مطلوبات الرواية التقليدية وخصائصها الفنية مثل الحبكة القائمة على التسلسل والترابط في البداية ثمّ الذروة ثمّ النهاية، واللغة النمطية، ثم يفلح بعد ذلك كله في تقديم رواية ناجحة ومشوقة يتكيء فيها على جماليات التفكك كبديل لجماليات الوحدة والتناغم، ويقودك عبر متاهات من السرد الجميل لتجد نفسك منساقاً إليه وتقدم عقلك طائعاً منقاداً واثقاً في المخرج ثم لا يخذلك فتجد أنه قد عبر بك إلى حيث يريد بعد أن يقوم بكسر مبدأ الإيهام بالواقعية، ويلغى منطق الخصائص الفنية للرواية ويوجد بنية لغوية جديدة ذات ملامح خاصة به ويكسر التسلسل الزمني، عبر الانحرافات السردية. قليل من ينجح في مثل هذه المغامرة.
الرواية الجديدة ليس لها نموذج جاهز .. هل هي قابلة للاختراع بوصفها شكلاً جمالياً؟
بكل تأكيد ففي ظني أنه قد انتهى عصر الرواية النمطية التقليدية في العالم فنحن نشهد بداية ميلاد نماذج جديدة للرواية تجعل النقاد والمختصين في علم دراسة الرواية يعيدون النظر في قوالب تنميط الرواية ويقبلون الجديد الذي يخرج على النماذج المعهودة وفي ظني أن القراء هم من يسهم في بلورة الأشكال الجمالية الجديدة وهم من يحكم لها أو عليها بإقبالهم عليها أو عزوفهم عنها.
تاريخ الرواية العالمية هو صراع بين المضمون والشكل؟
أو فلنقل هو تبادل للأدوار حيث يكمل بعضهما بعضاً وهو استعارة أحدهما لأكبر حيز ممكن في النص الروائي ولكن ليس بالضرورة على حساب الآخر وذلك لأن المساحات المخصصة لكل منهما ليست بالضرورة مساحات جامدة أو خطية فراغية لكنها مساحات مرنة وهو الأمر الذي يمنح كل رواية هويتها وتميزها ويمنح كل مؤلف بصمته في كتابة العمل الروائي. علماً أن هذا يختلف باختلاف لغة كتابة الرواية وبلدها.
لقد أسميت مشروعك (بالعرفانية) ماذا تعني؟
المعرفية أو العرفانية في أحد تعريفاتها اللغوية هي السرد نفسه فهي تشرح علاقة السرد كخطاب بالمعرفة كتجربة فآلية التخييل التي تعيد بناء التجربة النوعية وتسريدها من خلال نصٍّ تعاقُبيٍّ في الحبكة الروائية المتصلة تقوم بتحريك التاريخ وتقديمه للقاريء ليس باعتباره تجربة ماضية منقطعة، بل باعتباره فكرة دائمة التدفق شاخصة في الزمان وشاهدة على أحداثه من خلال الرواية المعرفية. وهنا تتجلى عبقرية المؤلف في سرد الحبكة الروائية التي تستعير أحداث الماضي وتخرجها من سياجها الموضوعي والزماني لتطلقها في فضاء الحاضر متكئة على إمكانات المؤلف المعرفية وتقنياته الكتابية، وملكته اللغوية، وتدمج كل ذلك في إشكالات الحاضر وهمومه وربط كل ذلك بأسئلة الهوية وثراء وتنوع مجتمعنا الحاضر. وأما القاريء فيأتي دوره في توقع صدق الحدث الروائي ليتحقق المعنى عنده منها، حتى لو جاءت الوقائع المحكية مفارقة لواقعه وفكره، إلا أنها تمثل ملامحَ من تاريخه الثقافي والحضاري، وتخاطب لاشعوره الجمعي. ولا يتأتّى هذا التخييل لأيّ كان، لأنه ليس شكليّا أكثر منه معرفيا وروحيا، إلا لسارد مقتدر ومتشبع بالتجربة وعارف بمضايقها، ومساربها فهو ينقلها ويخبر بها القارئ على النحو الذي يسمح له بفهمها وتذوّقها؛ ثُمّ هو يؤوّلها في حاضره بلا تعسُّف أو خلط. ولهذا أدخل في رواياتي العرفانية في حوار تخييلي مفتوح مع الشخوص الحقيقية للرواية التاريخية لأرسم صورة روائية تخييلية لكنها تقترب من الحقيقية لهؤلاء الشخوص بحيث تملأ كثيرا من الفراغات والفجوات بقدر ما يُقرّبهم من القراء حيث أقوم باستدعاء التاريخ وإعادة بنائه نصّيا على النحو الذي لا يصادم حقيقته على وجه الإمكان والاحتمال، ويجعل ذاكرة الحدث ضرورة من أجل الحاضر والمستقبل. باختصار أنا أقدم النّص الأدبي بأسلوب حكائي سردي منضبط بالمعايير الفنية للرواية، مما يسهل عبور المعرفة إلى القارئ من خلال النسق الأدبي المتجسد في الحكاية والسرد واستدعاء شخصيات تاريخية لها رمزيتها المعرفية التي تتصل بمرجعيات تاريخية أودينية عبر النص الروائي والذي قد يكون نصاً عجائبياً أحياناً ويتمحور حول شخصيات غير معقولة تقدم على أفعال عجائبية، خارقة للواقع الإنساني (كما في رواية أنفاس صليحة) وإذا كان النص العجائبي في السابق مقصود منه الإدهاش واستحضار عوالم جديدة ليست فلسفية فأنا أكتب روايات تجمع بين الفلسفة والتاريخ الحقيقي والعجائب في ما يسمى الرواية المعرفية.
الرواية الآن أهي تقوم على التجربة الفكرية أم التخييل بدلاً عن تصوير الواقع مباشرة
معلوم أن التخييل هو كل تاريخ يُبنى على وقائع في عقل المؤلف أكثر منه على وقائع حقيقية وأن الشخوص التي يستحدثها المؤلف هي مجرد شخصيات خيالية أيضاً بيد أن الوقائع الممثَّلة في التخييل ليست كلُّها بالضرورة متخيلة، وذلك مثلما هو في حالة آخر أعمالي (تشريقة المغربي) على سبيل المثال فقد أسستها على وقائع تاريخية مؤكدة، لكني أستغل فيها فراغات التاريخ وفجواته فأُدخل فيها شخصيات وأحداثاً مستوحاة من خيالي. وإذا كانت بعض الأحداث أو الشخصيات متخيّلة، فلا ينبغي بالقدر ذاته أن تكون غير حقيقية فعنصر التخييل في رواياتي مثلاً يسير جنباً إلى جنب في نسيجه السردي وسداه مع الحقيقة التاريخية. ومع أنني أقود القاريء عبر التخييل في عرض مادتي الحكائية لكنني لا أمنح الخيال الهيمنة الكاملة بل أجعل من الخيال مجرد عنصر مساعد فقط لتمكين الحقائق التاريخية في ذهن القاريء عبر السرد مع القدرة على مزج التخييل التاريخي، والعجائبي والذاتي مع الحقيقة التاريخية في نسيج متميز ينتج لنا الرواية المعرفية.
باختصار كيف تكون الرواية بنظرك؟
الرواية النموذجية هي كل إضافة جديدة في السرد تأخذ بألباب القاريء وتجبره على القراءة وتقدم له المتعة ليعيش فصولها عبر النّص الأدبي بأسلوب حكائي سردي سلس ومنضبط بالمعايير الفنية، مما يسهل عبور المعرفة إلى القارئ من خلال النسق الأدبي المتجسد في الحكاية والسرد وأيضاً تقدم الفائدة عبر موضوع يحكي تجربة حياتية وجودية أو حقيقة تاريخية أو حكمة أو عبرة وفي الوقت نفسه يكون جميلاً ألا تخرج الرواية عن المطلوبات والخصائص الفنية مثل الحبكة القائمة على التسلسل والترابط في البداية ثمّ الذروة ثمّ النهاية، مع اللغة الجميلة والأسلوب المبتكر.
سعدت بصحبة الروائي الإعلامي المخضرم الأستاذ عيسى الحلو