رؤية نقدية أعدها ونشرها الأستاذ أيمن رجب بعنوان ( انسجام الأضداد في رواية نيلوفوبيا ) لـلروائي العالمي د/ عمر فضل الله المنشورة بجريدة القاهرة الموسوعية عدد الثلاثاء الماضي:
انسجام الأضداد
في رواية ( نيلوفوبيا ) لـ د/ عمر فضل الله
رؤية / أيمن رجب طاهر
الغرق.. هو الحدث الأعظم والأشد وطئًا في حياة شخصية الرواية المحورية عبد العزيز عثمان، فبموت صديقه صلاح غرقًا في النيل دقّت أوتاد الخوف من الاقتراب من النيل وقلب حياته من ولد مهذب مطيع إلى مشاكس، عنيف، متمرد، متحدٍ لأي أمر وكل أمر فلا يرى اتساقا لحياته غير المراوغة وعدم الطاعة ومقابلة غيره بالعنف وإن بدت منهم مهادنة، تأرجحت نفس البطل عبد العزيز بمرور أيام حياته فاستمع لآراء كل الأحزاب ولم ينضم حقيقة لأي منها وكأنه يؤكد لنفسه أنها ستعيش العمر كله بلا هوية وأن حياة الفوضوية التي اختارها لنفسه هي التي يجب أن يعيشها؛ فلا يهتم بمظهره أو نظافته مع أن مهارته وحذقه في حل المسائل الرياضية لزملائه كانت من أهم نقاط انجذابهم له.
ومنذ التحاق عبد العزيز معلمًا للرياضيات بمدرسة ثانوية الجريف شرق للبنات وبدأت تتفتح نوافذ حياته المغلقة على ذكرى علاقته بصديقه صلاح على المجتمع المدرسي بكل ما فيه فانخرط في صخب مجتمع الطالبات وأحب التدريس بمدرسة الجريف وما إن أعلنت إدارة المدرسة عن رحلة علمية لطالباتها حتى اقترح عليهم عبد العزيز الذهاب إلى مصر لرؤية القاهرة وآثارها التي ليس لها حدود فسافر أعضاء الرحلة من طالبات ومشرفين وعلى رأسهم الأستاذ: عبد العزيز والمدير بالقطار حتى وادي حلفا ثم استقلوا الباخرة إلى أسوان عبر بحيرة النوبة.
القاهرة المدينة الحالمة كما وصفت استمتع الطالبات بكل الأماكن التي زاروها والاستماع إلى مرشدهم الموسوعي الأستاذ عباس إلى أن انتهت أيام الرحلة وبدأت العودة على متن الباخرة (العاشر من رمضان) التي وصفت كأنها قرية صغيرة بما فيها من ركاب وبضائع وتجار وشغل الطالبات الطابق العلوي وجهزن لحفل بمناسبة العودة وشارك الجميع عروسين أمضيا شهر العسل بالقاهرة وعادا على نفس الرحلة.
بالليل والباخرة تمخر عباب النيل في أمان حدث الانفجار المروّع ووهج النيران المندلع من المواد البترولية المحمّلة على جانب من السفينة والتي أدّت إلى سرعة اشتعال جنبات الباخرة والذعر ينتاب الجميع بما فيهم طالبات الرحلة اللاتي ركضن نحو المنتصف وتخبط الركاب كل منهم يرجو الفرار بنفسه من الحرق ومدير المدرسة يحاول إنقاذ البنات بعد أن هرب طاقم قيادة الباخرة ناجيًا بنفسه، توالت الانفجارات واتسعت رقعة النيران التي أطبقت على الركاب الذين يحاولون الوصول إلى سياج السفينة وإلقاء أنفسهم في الماء.
وهنا في هذه اللحظة الأشد حرجًا في حياة عبد العزيز المحاصر من النيران والخوف لحد الموت من النيل منذ غرق صاحبه صلاح فتسمر أمام السياج، حرّ النار وزحفها المستمر لم يجعل له خيارًا على الحقيقة فإما الموت حرقًا أو إلقاء نفسه في النيل ومع ذلك قرّر أن يبقى على السياج بين النار والماء وهنا فوجئ بيد زميله عباس تدفعه منقذًا إياه من الاحتراق فوجد نفسه تحت الموج في أعماق النيل مكرها على السباحة وعباس ممسك بيده.
في الماء لم يكن بد من العوم والاستماتة ليطفو لا لينقذ نفسه فقط ولكن ليحاول إنقاذ الآخرين وخاصة طالباته ومعظمهن لا يعرفن السباحة وفوجئ بمدير المدرسة الفدائي الجسور والمتفاني في محاولة إنقاذ بناته لكن المفاجأة الأكثر ذعرًا هي مواجهة تماسيح النيل الجائعة التي بدأت تطبق بأسنانها النهمة على السابحين وأضافت رائحة الدماء من الأشلاء الممزقة على روائح الجثث المتفحة بفعل الاحتراق في نفس عبد العزيز هلعًا لا يوصف.
دفع مشرفو الرحلة أجساد الطالبات نحو الشاطئ الجبلي في محاولة أخيرة لإنقاذهن من الغرق وافتراس التماسيح مما أدّى إلى تشجع عبد العزيز في مواجهة الموت وما عاد يخشى النيل كما كان من قبل وسبح بكل عزم لينجو وهناك كان بانتظار من نجا أسراب العقارب تلسع المتهالكين على الشاطئ ويندهش عبد العزيز من نجاته من الاحتراق والغرق وفكوك التماسيح القاتلة ولسعات العقارب ولدغات أفاعي الجبل وتراكض الضباع والذئاب تنهش الأجساد المنهكة وعبد العزيز ماثل لا يحسن غير الذهول “وقفت هناك، وكنت وحدي في اللازمان ولا مكان ولا اتجاه، الحضور موحش والأشجار القصيرة اليابسة أدارت لي ظهرها وظلت تحرك أغصانها وترقص رقصة الموت” صـ 227
نزل عبد العزيز من الجبل ومشى حتى وصل إلى محطة السكة الحديد في وادي حلفا، قطع عشرات الأميال عائدًا إلى العيلفون، هناك سمع الناس تتحدّث أن ستين طالبة من مدرسة الجريف مع مشرفي الرحلة متن غرقًا أو حرقًا أو بسم العقارب والأفاعي والكثير من الصيوانات منصوبة لأخذ العزاء ولم ينج إلى واحد فأيقن عبد العزيز أن عباس أيضًا قد قضى نحبه وهو يكافح من أجل إنقاذ طالباته.
طاف بأرجاء البلدة فلم يكلم أحدًا ولم يكلمه أحدٌ حتى وصل لبيته فلم تكترث به أمه أو أخته نسمة الحزينتان وزوجته منال منكبة على نفسها تبكي وكأنه غير موجود، طار إلى ثانوية الجريف فوجدها مغلقة فذهب إلى النيل وواجهه بأنه لم يعد يخافه وعاتبه على غدره بالتهام الناس في جوفه ومن قبل إغراق صلاح، صلاح إنه يراه الآن.. تتلاقى نظراتهما لكنهما لا يتكلمان وحين افترق عنه فوجئ بزميله عباس موجود بمستشفى الأمراض النفسية، ساكتًا هلعًا نحيفًا فتركه.
عاد إلى العيلفون ليستمع إلى حوار عمه بأن عباس كان زميل ابن أخيه عبد العزيز بالمدرسة وتأتي لحظة التنوير التي اختارها د/عمر فضل الله ليتفاجأ القارئ بأن الناجي الوحيد هو عباس المصاب بلوثة من هول ما مر به وأن عبد العزيز قد مات غرقًا مع بنات المدرسة ومشرفيها ومديرها الشجاع فطار إلى مقابر أم قحف ووقف أمام قبر صلاح، جواره ينتصب شاهِد قبر حديث مكتوب على حجره الرمادي “كل نفس ذائقة الموت هذا قبر المرحوم عبد العزيز عثمان توفى بتاريخ 24 مايو 1983 في حادث الباخرة العاشر من رمضان نسألكم قراءة الفاتحة لروح الفقيد” صـ 254
في دواخل روحه تجذّر اليقين أنه طوال الفترة السابقة كان روحًا بلا جسد فعادت إليه السكينة ورأى صلاح في العاشرة من عمره كما فارقه وهم صغار فأمسك بيده الدافئة ولم يتركها ومضيا معًا إلى الأبدية.
ــــــــــ
* نيلوفوبيا (رواية) عمر فضل الله صادرة عن دار البشير للثقافة والعلوم ط (1) 2021م
* عمر فضل الله: روائي سوداني مواليد أرض العيلفون شرق النيل الأزرق يناير 1956م دكتوراه في علوم الحاسب الآلي وأصدر عدة روايات تهتم بالتوثيق لتاريخ السودان منها: ترجمان الملك / نيلوفوبيا / في انتظار القطار / أنفاس صليحة / تشريقة المغربي / رؤيا عائشة. وترجمت بعض أعماله إلى الإنجليزية والفرنسية وحائز على جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي وجائزة كتارا العالمية للرواية.
١
اضف تعليقا