ترجمان الملك – مراجعة أحمد محمد عوض

اسم الرواية : تُرجمان الملك

المؤلف : د. عمر فضل الله

عدد الصفحات : 271

المراجعة:-

أثارت هذه التحفة الأدبية تساؤلًا.. وأحدثت جدلًا دار بيني وبين نفسي.. هل الإمبراطور النجاشي أصحمة بن أبجر سوداني؟.. هو مشهور بأنه حبشي وعرفت الهجرتين الأولى والثانية بالهجرة للحبشة.. ولكن إذا طرح تساؤل ما هي أعظم الممالك في ذلك الزمان.. هي مملكة علوة بلا شك..

حكى لنا المؤلف بلسان شخصية تسمى (سِيسِّي) أعاجيب عن تلك الحقبة الزمنية الممزقة من التاريخ.. وسِيسِّي هو حفيد دلمار ترجمان الملك الأبجر ومن بعده ابنه أصحمة.. وقد عاش طفولته «دون أب» فكان جده والد والده وعم والدته (تانيشا) بمثابة الأب له.. وعاش طفولة مرحة مع صديقة طفولته (سانجيتا)..

علمت مؤخرًا أن تلك الفترة الزمنية وتحديدًا في ذلك المكان بين ضفتي النيل وجوار النيل الأخضر والذي استنتجت أنه النيل المعروف اليوم بالنيل الأزرق.. علمت أن السودان في تلك الحقبة لم يروي عنه إلا أشلاء وصورًا ضبابية.. وأنا أعتبر المؤلف عبقري وحكيم وناضج في الرواية بما يكفي ليصف لنا ذلك الزمان بالتفصيل.. فمن خلال أحداث الرواية الشيقة اكتسبت الكثير من المعرفة.. وعرفت أشياءً عن بلادي في ذلك الزمان لم أكن أعرفها.. وكذلك مسميات لم أكن أعرف سبب تسميتها.. والشيء الجميل في الرواية هو السرد فالكاتب يروي لك تاريخ تلك المنطقة دون أن تشعر بالملل فيدخل التاريخ والمعرفة جرعات.. جرعات حتى تنال الجرعة الكاملة وذلك حينما تنهي قراءة الرواية..

صورت الرواية تلك الحقبة من الزمان كفيلم سينمائي.. زمان كانت العبودية في أوج عصرها.. وفي ريعان شبابها.. شاهدت من نافذة الرواية نساءً انتهك عرضهن وعبث بشرفهن.. وأطفالًا تجرعوا من كأس الذل والمهانة حد الارتواء أو أكثر من ذلك.. عوملوا معاملة لا تعامل بها الحيوانات الغير عاقلة ولا ترتضيها.. فكيف بالإنسان المشرف والذي خلقه الله سبحانه بيده ونفخ فيه من روحه.. تخيل أن الجواري كُنَّ يعرضن في العلن غير مستورات.. وتعلق عليهن لوحة فيه معلومات عنه مثلهن مثل أي بضاعة.. فيا للألم ويا للحسرة.. حقًا الشياطين من الإنس قد يفوقون شر شياطين الجن في كثير من الأحايين.. هُم كانوا يعرفون بالعبيد ذلك الزمان ولكنني أسميهم مستعبدين فالإنس يولدون أحرارًا ولكن ظروف الحرب وقسوة الطباع تؤول بهم إلى هذا الحال.. أمعنت النظر في هذه النافذة التي تريني سوبا أو كما كانت تعرف بـ(سوبأ) ذلك الزمان.. أمعنت النظر فرأيت النجاشي أصحمة بن الأبجر.. رأيته وقد تكالب الوزراء وقتلوا والده الأبجر وهو ابن ثمانية أعوام.. رأيت كيف تم استفزاز عمه لحياكة جريمة اغتيال والده.. لقد عاش أصحمة حياة صعبة وعسيرة في طفولته.. تخيل طفلًا صغيرًا يعيش حياة الملوك وفي لحظات يغتل والده ويباع عبدًا.. كيف يباع وهو ابن الملك.. لن أخبرك فالرواية هي ستخبرك كيف تم بيعه عبدًا.. والإهانات والذل الذي مَرَّ به في صغره وكيف أثر ذلك على شخصيته إيجابًا..

هذه الرواية هي من أعجب الروايات فلن تستطيع تحديد بطلًا للرواية كالروايات الكلاسيكية.. فلو تحدثنا عن (سِيسِّي) بن (أبيلو) راوي الحكاية فله قصة معينة كاملة.. ولو تحدثنا عن والده أبيلو بن دلمار لتحدثنا عن رجل شجاع وفخر لعائلة أرياط الشهيرة ذلك الزمان وله قصة هو بطل فيها.. ولو تحدثنا عن الأب الكبير وترجمان الملك (دلمار) بن (أرياط) فهو رجل حكيم متشبع من الحكمة يجيد الكثير من اللغات ويعرف الكثير من عادات وتقاليد الشعوب المختلفة.. ولو تحدثنا عن النجاشي نفسه فهو بطل أيضًا في الرواية..

تخللت الروايات أحداث ماتعة وأخرى محزنة.. رواية ستجعلك تخوض معتركًا فيه الكثير من المشاعر الإنسانية فسوف ترى الحزن متجسدًا وستقابل الشفقة.. وستستأنس مع الرحمة المنعدمة.. ومرة سترى وستتخيل المعانة متجسدة في العبيد أو دعنا نقول (المُستعبدين).. جالت الرواية وصالت وحدثتني عن نقاشات دينية عن النبي المنتظر والبشارات التي وردت حوله في توراة اليهود وأناجيل النصارى.. فاليهود أنكروا النبي حسدًا وحقدًا من عند أنفسهم فهو مكتوب عندهم في التوراة.. وأنكروه لأنه ليس من نسل إسرائيل (إسحاق).. بل من نسل العربي إسماعيل.. والنصارى تركوا البشريات كبرًا من عند أنفسهم وستجد هذه النقاشات الدينية في أجزاء من حوارات الرواية وستعكس للقارئ المعرفة الكبيرة التي يمتلكها المؤلف ليستدل بالإنجيل وبأسماء مشاهير النصارى ومعتقداتهم وطوائفهم.. وبالتوراة وأسماء مشاهيرهم وكذلك معتقداتهم خصوصًا ما ذكر عن هيكل سليمان وفرسان الهيكل..

نقلت لنا الرواية في مجرياتها أبشع الجرائم التي ارتكبوها بنو التراب والصلصال ألا وهي كبيرة السحر والسحرة متجسدة في كيان الشر الساحرة الشهيرة (سيمونة) تلك المرأة التي مرت حقبًا وقرون وهي هي لم تتغير ولم تموت.. فأعتقد كثير من الناس أنها خالدة.. والسؤال الذي يطرح نفسه هل هي خالدة؟!.. الرواية ستجيب عليك وستخبرك كيف عاشت تلك الساحرة كل هذه السنين.. ولِمَ استوطنت مملكة علوة المسيحية.. ولم تم نفيها إلى جزيرة التمساح.. ولِمَ لَمْ يتم قتلها أو حرقها..

نأتي للجزئية الأجمل وهي جزئية هجرة المسلمين الأولى والثانية إلى الحبشة.. فالتاريخ ذكر هذه القصة مختصرة وعلى عجالة ولكن المؤلف أبى أن تذهب هكذا دون أن يُضَيِّفها بِضِيافَتِهِ الخاصة.. فنرى أنه فتح لنا نافذة رأينا فيها خيار الصحابة وشيئًا من أخلاقهم الحميدة.. وصفاتهم الفاضلة.. وعقلهم الراجح.. وحبهم لنبيهم..

رأيت كيف استقبلهم أهالي سوبا بحفاوة.. وكيف ضيفهم النجاشي وأحسن مثواهم.. ونرى أن المؤلف حدثنا أكثر عن الصحابي الجليل الزبير بن العوام.. فهو أصغر المهاجرين للحبشة.. وفيه قالت (تانشيا) والدة (سِيسِّي) تنصحه .. قالت :

– يا ولدي، الأيامُ ستتداول عليك بالأفراح والأحزان.. عش أفراحها وأحزانها.. ولكن إياك أن تقع فريسة لها.. انهض وأدِ دورك فيها.. وإياك أن تضعف.. فهي لا تفترس إلا الضعفاء.. وإن كان الزبير صديقك حقًا فقلده في العزم والمضي والإصرار..

ما استفدته من الرواية :-

1- أن الملك قد يزول في لمح البصر فلا تغتر بما آتاك الله من مال وملك وولد وجاه..

2- أن التوكل على الله هو السر الأعظم للنجاة.. كما أنجى النجاشي من غياهب السفينة السفلية المظلمة.. ثم أعاده للقصر وأعزَّ جنده وأعلى شوكته.. وآتاه الحكمة.. والقبول من عامة الناس..

3- أن لا نضخم الأمور.. وأن لا نعطي أي إنسان فوق حقه.. فما دام الإنسان يمشي على قدمين فهو ليس عصيًا كما قال الزبير رضي الله عنه..

4- ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله كما حدث للوزراء الذين تكالبوا ليسقطوا الملك.

5- أن الحق واضح للعيان كشمس الصيف منتصف النهار أو كالقمر ليلة أضحوان.. ولن يراه إلا من تعامى عنه كالنصارى أو رفضه عدوانًا وظلمًا كاليهود..

6- السحرة الأشرار لن يقدروا على الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات..

7- وأخيرًا الذخيرة اللغوية التي جنيتها من الرواية.. والأساليب البلاغية والتقنيات المختلفة..