لَمْ أَعْجَبْ حِينَمَا استَدْعَاني مِنْ بينِ أطلالِ الماضي الغَابِرِ، لتقديمِ رِوَايَتِهِ للناسِ، في زَمَانكِمُ هَذَا، فَقَدْ كُنتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ يَحْتَاجُنِي. أنا الشابُّ “سِيْسِّي بن أَبِيْلُّو بن دَلْمَار”، الذي عاشَ حياةً حافلةً في زمانِهِ، ثم ماتَ وماتتْ مَعَهُ قِصَّتُهُ. لم يسمعْ بهِ ِأَحَدٌ في عصرِكُمْ هذا. وَحِينَ حَدَّثَنِي أنَّ أَحَدَاً في زَمَانهِ لا يقْدِرُ أَنْ يُقَدِّمَ رِوَايَتَي أَفْضَلَ مِنِّي صَدَّقْتُهُ، مِثْلَمَا صَدَّقْتُ حِينَ عَادَ إِلى الماضي بَاحِثَاَ عَنِّي يَنْبِشُ القُبُورَ في خَرَائِبِ مَدَافِنِ “العَنَج” العَمَالِيق جَنُوبَ سوبأ، وَيَقْرَأُ الشَّوَاهِدَ لِيَجِدَنِي، آخِرَ الأمرِ ثُمَّ يُخْبِرَني أَنَّ العَالَمَ بقي بَعْدَنَا ألفاً وَخَمْسَمِائةَ عَام! وأنَّ نِهَايَةَ العَالمَ ِلمَ ْتَحِنْ بَعْدُ. صَدَّقْتُهُ في كُلِّ هَذَا، وَلَكِنَّنِي لَمْ أُصّدِّقْ أَنَّ أَحَدَاً مِنَ النَّاسِ لا يَعْرِفُ سوبأ العَاصِمَةَ، وَ”مَمْلَكَةَ عَلَوَة العَظِيمة”، بَعْدَ مُضِيِّ خمَسْةَ َعَشَرَ قَرْنَاً فَقَطْ. كُنْتُ أَتَوَقَّعُ أَنْ تَبْقَى في ذَاكِرَةِ العَالمَ مِائَةَ قَرْنٍ أُخْرَى.!! لوَلا ِهَذَا ما وَافَقْتُ عَلى العَوْدَةِ لِأَرْوِيَ لَكُمْ. أَقِفُ الآنَ جَنُوبَ سوبأ العَاصِمَةَ فِي زَمَانِنَا القَدِيمِ مُتَأَهِّبَاً للإطْلالَةِ عَلَى زَمَانِكُمْ والشُّرُوقُ، يُزَيِّنُ بِفُرْشَاتِهِ أَسْوَارَها، وَأَسْوَاقَهَا، والبُيُوتَ، وَالأحْيَاءَ، أَمَلاً في مَجِيءِ نَسِيمِ (البُطَانَة)(1) الشَّرْقَيَّة ليِتَأَمَّلَ هَذِهِ اللَّوْحَةَ، قَبْلَ أَنْ يَنْفُثَ سِحْرَهُ فِيهَا يَرْجُو لهَا الخُلُودَ، والنيلُ يَرْبِضُ غَرْبَهَا مِثْلَ طِفْلٍ بَرِيءٍ يَخْتَبِيءُ مِنْ أَقْرَانِهِ في لُعْبَةِ “دَسُّوسِيَّةٍ”(2 ) بَدَأُوهَا عِنْدَ العَشِيَّاتِ ثُمَّ غَلَبَهٌمْ النَّوْمُ، والنِّيلُ مَا يَزَالُ مُسْتَمِرَّاً فِي اللَّعِبِ يَنْتَظِرُ مَجِيءَ الأَقْرَانِ. لَوْ ذَهَبْتُمْ لِلنِّيلِ لَحَدَّثَكُمْ عَنِّي وَعَنَّا، وَعَنْ سوبأ َوَعَلَوَة، وَالمُلُوكِ العُظَمَاء وَالنَّاسِ. النِّيلُ رَاوِيَةٌ قَدِيمٌ، لا يَمَلُّ مِنَ التِّكْرَارِ. “أَسَاطِيلُ عَلَوَة” وَهِيَ تَزْحَمُ النِّيلَ بِأَشْرِعَتِهَا البَيْضَاءَ المُنَشَّرّةِ. وَأَنَاشِيدُ الجُيوشِ العَظِيمَةِ، وَ”العَنَجُ” العَمَالِقَةُ الذينَ تَهْتَزُّ الأرْضُ تَحْتَ أَقْدَامِهِمْ الضَّخَمَةَ حِينَ يَعْرِضُونَ القُوَّةَ وَالبَأْسَ الشَّدِيدَ فِي مَسِيرَاتِهِمْ عَبْرَ طُرُقَاتِ سوبأ وَخَارِجَ أَسْوَارِهَا. الطُّبُولُ “النُّحَاسِيَّةُ” المَرْصُوصَةُ جَنْبَاً إلى جَنْبٍ في سَاحَةِ المدِينَةِ والتي تَخْلَعُ أَصْوَاتُهَا القُلُوبَ حِينَ يَتَقَافَزُ الضَّارِبُونَ حَوْلَهَا وَيَدُورُونَ وَهُمْ يَنْقُرُونَهَا بِالعِصِيِّ الخَشَبِيَّةِ القَصِيرَةِ المُدَبَّبَةِ المَكْسُوَّةِ بِجُلُودِ أَذْنَابِ البَقَرِ. والرَّاقِصُونَ عَلَى وَقْعِ الطُّبُولِ نَهَارَاً أَوْ لَيْلاً وَهُمْ يَلْعَبُونَ بِالحِرَابِ وَالعِصِيِّ والنُّشَّابِ وَالدَرَقِ. عَبَقُ الطُّيُوبِ الشَّرْقَيَّة التي تَضَعُهَا نِسَاءُ عَلَوَة! مَا زَالَ فِي أَنْفِي بَعْدَ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ عَامٍ! أَيْنَ ذَهَبَ كُلُّ هَذَا؟ حِينَ دَعَانِي للعَوْدَةِ إِلى سوبأ لأَتَأَكَّدَ بنفسي لم أُصَدِّقْ مَا رَأَيْتُهُ. بَقَايا كَنِيسَةِ “مَارِيَّةَ” العَظِيمَةِ أَطْلالٌ مِنَ الطُّوبِ المُسَوَّى بِالأرضِ. قَصْرُ الملكِ المُنِيفِ إلى الشِّمَالِ صَارَ مَزَارِعَ ِللْدّوَاجِنِ. وَمَاذَا فَعَلْتُمْ بِالنِّيلِ؟ نِيلُ سوبأ العَظِيمُ انحَسَرَ مَجْرَاهُ وَصَارَ كَأَنَّهُ أَحَدَ الجَدَاوِلِ التيِ تَسِيلُ مِنْ الشَّرْقِ أَيَّامَ الخَرِيفِ فِي زَمَانِنَا. وَاختفتْ مِنْ فَوْقِهِ الأسَاطِيلُ المَهِيبَةُ ذَاتُ الأَشْرِعَةِ البَيْضَاءَ. “جَزِيرَةُ التِّمْسَاحِ” تَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهَا وَصَارَتْ عِدَّةَ جُزُرٍ صَغِيرَةٍ تَحْتَمِي بِكَبِدِ النِّيلِ الحَرَّى وَتَسْتَغِيثُ مِنَ الغَرَقِ. وَاخْتَفَتِ الأسواقُ والسُّورُ وَمَرَابِطُ الخَيْلِ وَثُكْنَاتُ الجُيُوشِ وَبُيُوتُ الكَهَنَةِ وَأَدْيِرَةُ الرُّهْبَانِ وَأَحْيَاءُ سوبأ الجَميلَةِ وَمَبَاني الجَصِّ وَالطُّوبِ والحَجَرِ. أَيْنَ أَشجارُ النَّخِيلِ البَاسِقَةِ والدَّوْمُ ِوَالمَانْجُو واللَّيْمُون؟ أَيْنَ السَّاحَاتُ الخَضْرَاءُ؟ أَنْتُمْ بَارِعُونَ جِدَّاً فيِ القَضَاءِ عَلى كُلِّ مَا هُوَ جَمِيلٌ. لا أَرَى حَوْليِ في زَمَانِكُمْ إِلا صَحْرَاءَ جَرْدَاءَ قَاحِلَةً مَدَّ البَصَرِ، يَشُقُّهَا طَرِيقٌ أَسْوَدٌ قَمِيءٌ، وَعَرَبَاتٌ كَئِيبَةٌ تَجْرِي فَوْقَهُ بِلا أَحْصِنَةٍ وَلا خُيُول، وكَأَنَّمَا تُطَارِدُهَا أَشْبَاحُ سِيْمُونَةَ(3) المَسْعُورَةُ. بَدَأْتُ أُصَدِّقُ أَنَّ نِهَايَةَ العَالمَ ِقَدْ اقْتَرَبَتْ. وَلَكِنَّيِ نَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَ المُؤَلِّفَ: لِمَنْ تُرِيدُنِي أَنْ أُقَدِّمَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ؟ هَلْ بَقِيَ فِي العَالمَ قُرَّاءُ مِثْلَمَا كُنَّا فِي زَمَانِنَا؟
تذييلٌ: سَوْفَ أَتَوَلَّى رِوَايَةَ قِصَّتِي بِنَفْسِي فَي الصَّفَحَاتِ التَّالِيَةِ. لَنْ أَسْمَحَ أَنْ يَرْوِيَهَا أَحَدٌ غَيْرِي!
***
“لَيْسَ كُلُّ مَا يَلْمَعُ ذَهَبًا وَلَيْسَ كُلُّ شَقْرَاءَ مَلِيحَةً” مثل حديث
في سوبأ: “كلُّ مُا يَلْمَعُ ذَهَبٌ وَكُلُّ سَمْرَاءَ مَلِيحَةٌ ” مثل قديم
اضف تعليقا