تحقيق : بهاء الدين عيسى
قبل أكثر من ربع قرن من الزمان غرقت الباخرة (10) رمضان في ليلة مظلمة مشؤومة على مقربة من أبوسمبل وهي في طريقها إلى حلفا من أسوان, وراح ضحية الحادث أكثر من (300) من جملة (725) راكباً. وفي الذكرى الـ(28) لا زالت القضية عالقة في أروقة القضاء و لا زال ذوو الضحايا في انتظار تعويضاتهم التي يقولون إنها دخلت متاهة موازنات العلاقات السياسية, ولكن يبدو أن هناك ضوءاً في نهاية نفق القضية المتطاول.
الأمل كلمة نسمعها ونرددها فهل يا ترى الكل يعرف معناها, وما هي مكانة الأمل في قلوبكم وإلى ماذا يرمز؟؟ هل الأمل موجود في الواقع أم فقط في الخيال, هل الأمل كذبة اختلقها الفاشلون؟
بالطبع لا وألف لا, الأمل شيء واقعي وفي غاية الجمال في نظري وهو كتلة من الأحلام الوردية التي لا حدود لها.
الأمل يمد قلوب البشر بالطمأنية والراحة ويرسم البسمة على شفاههم, الأمل يمدنا بغد أفضل ويوم أجمل, ولولا الأمل لماتت القلوب وكان البشر أجساداً بلا أرواح, ولولا الأمل لماتت قلوب المظلومين من الغضب والقهر, ولولا الأمل ما تعب البشر في أمور حياتهم من دراسة وجد واجتهاد في أعمالهم.
للتنقيب في هذا الملف الذي كاد أن يطويه النسيان إلا ذاكرة أسر الضحايا التي لا تزال تختزن الكثير نعيد فتح الملف عبر اتصالات ماكوكية بين الخرطوم وأسوان, في قضية تجاهلتها الحكومات المتوالية ولكن لا شيء يعلو على القانون.
هكذا انفتح من جديد باب الأمل بمصراعيه أمام أسر ضحايا الباخرة (10) رمضان بعد أن قنطوا من القضية, ولم يعد أرباب القانون يفتحون ملف قضية خلال (27) عاماً ضد هيئة وادي النيل للملاحة, وتعد هذه سابقة يجب التمعن فيها والاستفادة من الدروس لبسط سيادة القانون بغية استرداد الحق الضائع, بعد مرور أكثر من ربع قرن على قضية متشعبة الجذور أطرافها مواطنون أبرياء, والشريكان في هيئة وادي النيل للملاحة المتمثلان في حكومتي الخرطوم والقاهرة اللتين لزمتا السكوت عن التدخل لإنصاف المظلومين, فضلاً عن زعزعة القضاء والتماطل في حسم قضية اكتملت كل فصولها التي تدين الجهة المالكة للسفينة.
ويحتفل عدد كبير من أسر ضحايا الباخرة من منطقة الجريف شرق في الخامس والعشرين من مايو الجاري بمرور (27) عاماً على الحادث الذي راح ضحيته عدد كبير من أبناء المنطقة, (طالبات مدرسة الجريف). ودعا منظمو الاحتفالية الجميع للوقوف صفاً واحداً بجانبهم لاسترداد الحقوق المسلوبة ومعاقبة المتورطين في الحادث الشنيع؟.
أسر ضحايا الباخرة (10) رمضان الذين التقتهم الصحيفة وجهوا نداءً للرئيس عمر البشير وحسني مبارك لتدخل الدبلوماسية بجانب القضاء للفصل في هذه القضية.
وتفيد معلومات (الحقيقة) أن أعداداً كبيرة من أسر الضحايا يستعدون لتقديم مذكرة رسمية لوزارة الخارجية بهدف الوقوف صفاً مع مواطنيها, حيث رفضت القنصلية السودانية في أسوان والسفارة في القاهرة مد يد العون لرعاياها الذين بادروا بتحريك إجراءت قضائية أمام المحكمة الابتدائية في أسوان.
وفتحت محكمة أسوان الابتدائية من جديد الباب على مصراعيه أمام أسر الضحايا لتقديم مستنداتهم الشرعية والقانونية أمامها, والتي أدت لاحتراق وغرق قرابة (300) شخص, فيما دعا أسر قتلى الحادث لتدخل الرئيس المشير عمر البشير ونظيره المصري حسني مبارك لوضع حد للعراقيل في طريق القضية للحيلولة دون تسوية الملف بطرق سياسية.
وقال محامي الدفاع عن أسر الضحايا محمد حسن خليل في تصريح لـ(الحقيقة) عبر الهاتف: لأسباب تتعلق بطعن جديد تقدم به شاهدان أمامها من جانب هيئة وادي النيل للملاحة الجهة المالكة للسفينة, قررت محكمة أسوان الابتدائية بموجب ذلك النظر في القضية من جديد عبر الدعاوى لأسر الضحايا. وناشد خليل عبر الصحيفة أسر الضحايا للإسراع بإكمال إجراءاتهم القانونية لتقديم الدعاوي الرسمية عبر المحكمة, مبيناً أن أعداد اللذين أكملوا إجراءاتهم تجاوز أكثر من (50) أسرة من جملة أكثر من (300) شخص من قتلى الحادث.
من جهة أخرى قال مندوب مكتب المحاماة المصرية صالح عبد الرحيم في حديث مطول مع (الحقيقة): إن القضية في الوقت الراهن تسير في الاتجاه الصحيح لكنه أبدى قلقه لعدم اكتمال ملفات أسر المتضررين, حيث تسلم المكتب حتى الآن نحو (50) منها من بين أكثر من (300) ضحية. وكشف عبد الرحيم طلاسم القضية التي كان لا يعرفها أي من السودانين, حيث أفاد بأن مكتب المحاماة تبرع منذ الحادث للدفاع عن حقوق الضحايا طوعاً غير أن القضية تباطأت كثيراً بسبب تماطل هيئة وادي النيل, وتذرعها بالحجج في غياب ذوي الضحايا, وأضاف: المحامون الذين يمسكون بزمام ملف القضية تبرعوا من أنفسهم للدفاع عن حقوق المتضرين في ظل مراوغات هيئة وادي النيل للملاحة, والتي تضع العراقيل أمام قضية تؤكد كل أبعادها مسؤولية الجهة المالكة للسفينة.
وهيئة وادي النيل للملاحة تتقاسم ملكيتها حكومتا السودان ومصر حيث أنشئت وفقاً لبرتكولات تكامل الجارتين.
واحترقت الباخرة قرب مدينة أبوسمبل المصرية بنحو عشرة كيلو مترات في الثالث والعشرين من مايو في العام 1983م, حيث كانت في طريقها لوادي حلفا وتقل الباخرة نحو (599) راكباً, نجا منهم (325) معظمهم من السودانيين, وتزامنت الحادثة مع حضور الرئيس المصري حسني مبارك لاحتفالات ثورة مايو بالخرطوم.
وحول الحادث أوردت صحيفة الأيام في عددها الصادر في (26) مايو 1983م خبراً تحت عنوان: (غرق الباخرة 10 رمضان وإنقاذ (250) من الركاب والحملات مستمرة).
وأفاد النبأ لـ(سونا) من أسوان أن مديرية أمن أسوان تلقت بلاغاً من امن الموانئ بمدينة (أبو سمبل), يفيد بأن الباخرة (10) رمضان التابعة لهيئة وادي النيل للملاحة النهرية قد اندلعت فيها النيران, في الثالثة والربع من فجر أمس على بعد عشرة كيلومترات جنوب مدينة (ابوسمبل).
ويضيف النبأ أن الحريق تسبب في انفصال أجزاء الباخرة المكونة من ثلاث وحدات, كما أن النيران التهمت الباخرة بأكملها وادت الى غرقها, والتي غادرت اسوان في الرابعة من بعد ظهر امس الاول في طريقها الى وادي حلفا, وتحمل ركاباً من جنسيات مختلفة معظمهم من السودانيين, بالإضافة الى عدد آخر من المصريين واربعة من جنسيات مختلفة و(28) يمثلون طاقم الباخرة.
هذا وقد أمر اللواء حسن ابو باشا وزير الداخلية المصري بإرسال طائرتي انقاذ واربع طائرات استكشاف تحمل اكثر من (40) ضابطاً وجندياً من قوات الضفادع البشرية والانقاذ النهري للطيران فوق منطقة الحادث.
وقد غادر أسوان إلى ابو سمبل بعد ظهر امس السيد سعد مامون وزير الحكم المحلي المصري واللواء احمد شرفي المتيني محافظ اسوان, لمتابعة الباخرة والاشراف على الاجراءت الخاصة بإنقاذ وإيواء الضحايا. وتقل الباخرة حسب (صحيفة الايام) نحو (599) راكباً).
ويضيف الخبر أن مساعد وزير الداخلية المصري اللواء فارق نورالدين ومدير أمن أسوان انه تم انقاذ (500) من ركاب الباخرة المحترقة.
كما تم نقل عدد من الركاب المصابين والجرحى الى مستشفى ابوسمبل وانتشال عدد من الجثث.
وفي الثلاثين من مايو 1983م تلقى وزير النقل والمواصلات اللواء خالد حسن عباس تقريرا شفهيا عن سير التحقيق الفني الذي اجراه مهندسون مصريون حول كارثة الباخرة (10) رمضان.
وافاد التقرير أن الباخرة لم تنشطر إلى نصفين كما جاء في الانباء وانها ما زالت طافية على سطح البحيرة, وقد دفعتها الرياح لمسافة (15) كيلو متر جنوي ابو سمبل حيث تتم عملية استخراج بعض الجثث.
من جهته صرح وزير الشؤون الداخلية احمد عبد الرحمن ان ظروف وملابسات حادث احتراق الباخرة في منطقة ابوسمبل ما زالت غامضة ولم تتضح بعد وما يزال التحقيق والبحث عن الاسباب الحقيقية مستمراً.
وأضاف أن الذين نجو من الحادث بلغ عددهم نحو (325) شخصاً توجهوا كلهم الى السودان, أما الذين توفوا في الحادث وهم (317) فقد تم دفنهم بعد العثور عليهم في مقبرة سميت (مقبرة الشهداء). وقال إن النيابة التقطت صورة لكل منهم. وأشاد الوزير بجهود السلطات الأمنية لمواجهة الموقف. ويروي أحد الناجين من كارثة الباخرة (10) رمضان أن النيران اشتعلت فجأة وباغتت الضحايا!
هذا ما سطره قلم الأستاذ هاشم عثمان في عدد الأيام الصادر في الحادي والثلاثين من مايو.
وقال شاهد عيان وقتها إنه عند منتصف الليل .. التفت الباخرة (10) رمضان بثوب الهدوء.. يكسوها بالسكينة والاطمئنان والليل هو الآخر جلس متربعاً… مستريحاً ممددا رجليه في استرخاء عميق مغريا الجميع بالنوم… الا بعض الشباب الذين اخذتهم الدردشة.. واستطاب لهم الحديث.. فاخذوا يغنون تارة وينشدون الاناشيد الوطنية تارة أخرى.
الجميع نائمون منهم من سافر في رحلة الاحلام تسبقه الاشواق الحارة وحلاوة العودة وحرارة معانقة الاب, الام, الاخ, الابن والصديق, ويسبقهم الحنين الى المكان… فكان أن قطع القدر كل ذلك في لحظات ليعانقوا الدخان الكثيف .. والنيران الحارقة والظلام الدامس .. ليعانقوا الموت في ابشع صوره.
حيث صاح القضاء إني خيرتكم فاختاروا .. بين الاستشهاد في الماء او في النار.. لا توجد عندي منطقة وسطى ما بين الماء والنار…
وكان ذلك حقاً في بعض الذين كتب لهم النجاة حيث آووا الى الجبل الذي كان على مقربة من الباخرة, فكانوا على موعد مع الثعابين والعقارب السامة لتأخذ نصيبها هي الاخرى.
ويواصل الحديث احد شهود العيان في الباخرة ويدعى عبد الله محمد عبد الرحمن بركات (23) سنة حينها, من ابناء منطقة ودحسونة حيث يقول: كنت مغترباً في المملكة العربية السعودية قرابة العام ونصف.. وفي الشهر الماضي حصلت على اجازتي وتوجهت من السعودية الى تركيا لشراء لوازم وجهاز الزواج.. حيث اخطرت اسرتي بانني ساعود ومعي (الشيلة), وكان الموعد المضروب لحفل زواجي 20/6/1983م ومن تركيا قصدت القاهرة, حيث اكملت بعض مطلوبات الزواج ونسبة لكثرة الحقائب قررت العودة بحرا, وعند ظهر الاثنين (23/5/1983م) تحركنا من أسوان حيث تعرفت فيها على عدد من السودانين بينهم معلمون بمدرسة الجريف شرق الثانوية العليا, ولقد رايت الفرح والشوق للعودة للوطن في اعينهم.
ظللت انا وبعض الاخوة السودانين طوال الليل نغني وننشد الاناشيد الوطنية بمناسبة عيد ثورة مايو حتى منتصف الليل.
وقررنا النوم.. فذهب كل منا لاحضار فراشه وكان أن فوجئنا بدخان يتصاعد من جهة مخزن الباخرة, وما هي الا لحظات وانتشرت ألسنة النيران في جميع اركان الباخرة واصبح الكل يجري محاولا ايجاد طريق النجاة له ولاسرته واصدقائه.
شرعت انا وبعض الذين يجيدون السباحة في انقاذ بعض الطالبات اللائي سقطن في المياه ولم نتمكن الا من انقاذ خمس طالبات والبقية منهن توفين نتيجة الغرق والاختناق.
عموماً الطريق بات شائكاً في ظل قضية معقدة ظلت لفترة طويلة في ادارج المحاكم المصرية, والجهات العدلية السودانية غائبة عن تقديم النصح والمشورة لرعاياها, فهل ينتصر القانون على الساسة الذين يربطون كالعادة حقوق المواطنين بمصالح سياسية؟ أم أن حكم القانون سينتصر في نهاية المطاف.
اضف تعليقا