لا شك أن الأنماط الدينية التاريخية التي تتمتع بها رواية (ترجمان الملك) تجعل منها منظومة أدبية لوحدها، حيث أنه تتعدد بها الملامح الأدبية المختلفة، وأن من يقرؤها لابد له أن يعيد قراءتها مراراً وتكراراً، ليستنبط منها دهشة الحكي والسرد التي ترتاب مخيلتك وأنت تقرأ كل هذا الزخم الهائل من المعلومات عن المنسي من تأريخ السودان، ولكن الأدهى والأمر أن تحاول استقراء السهل الممتنع لهذه الأدبيات من مشروع د. عمر فضل الله الروائي وأنت قارئ بسيط.
فمعنى الحوار في اللغة: مراجعة الكلام وتداوله، والمحاورة: المجادلة، والتحاور: التجاوب، وهم يتحاورون أي: يتراجعون الكلام، ومنه قولهم: لم يُحِر جوابا أي: لم يرد ولم يرجع الجواب؛ فمرجع الحوار للتخاطب والكلام المتبادل بين اثنين فأكثر. والمعنى اللغوي العام للحوار هو مراجعة الكلام والحديث بين طرفين، فإذا أضيف إلى الأديان أصبح معناه ما يدور من الكلام والحديث والجدال والمناقشة بين أتباع الأديان، وهذا يدل على أن معناه عام متعدد الأشكال والصور والأنواع بحسب نوعية الكلام والمناقشة. أما مدلوله الاصطلاحي فهو مجمل غامض، لأنه يستعمل بأكثر من معنى، فهو يحتاج إلى بيان أنواعه والفروق بينها. فعبارة «الحوار بين الأديان» تشمل معنى صحيحاً ومعنى باطلاً يحتاج كل منهما إلى بيان وتوضيح.
إن مسألة التأريخ تشكل دائماً النموذج الذي يملك المجتمع الدراسات الإنسانية وحقائق التأريخ في قوالب أدبية متعددة الإنتاج، لكن هنا في رواية (ترجمان الملك) شيئاً ما يتمرد علي العقل ويسرح بك الخيال ليمتزج مع الحقائق التي نقبها الراوي في الفترة ما بين 340 ميلادية إلي 600 ميلادية لتأريخ مملكة (علوة) المسيحية في عهد الملك (النجاشي) ملك الحبشة والعلاقات الإنسانية من مرحلة غامضة لتأريخ تم سرده بحرفية عالية من خلال التشويق والتسلسل الحدثي، والإبداع في الحوارات مما يجعلك أحد أبطال الرواية وأنت متاح لك الاختيار كيفما تشاء، وقد اتسمت الرواية بالتشخيص الإيجابي في النضج الفكري لصناعة الرواية ومنهجها الجيد الذي ينم عن عبقرية الراوي. وبحكم أنني لست ناقداً وكوني قارئاً بسيطاً استلهمت الرواية شغفه في أن يسبر غورها، أجدني أتقمص شخصياتها وأعيش دورها، وهي تضفي إلي حبي للدراسات الأدبية وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا الموفور بين طياتها، شيئاً من المتعة، ثم جذبتني لأعيش نوستالجيا عهد ذلك (النجاشي) الملك الذي لا يظلم عنده أحد كما قال سيد المرسلين سيدنا (محمد) عليه أفضل الصلاة والسلام، وهجرات المسلمين القادمين في عهده من مكة للاحتماء بمظلة عدالته هروباً من قبضة قريش وعذابها.
لقد استطاع الراوي أن يجمع ما بين الكنيسة (المسيحية) والإسلام في قالب أدبي لحوار الأديان لتلك الحقبة من تأريخ السودان المنسي لــ(مملكة علوة المسيحية) وسكانها الذين كانوا يطلقون عليهم اسم العنج، وهو مؤرخ لا يشق له غبار في ذلك. ويحكي لنا بلسان (سيسي) ابن دلمار بن أرياط (ترجمان الملك النجاشي)، مستصحباً أدوات الشروح والتمحيص في حوار للأديان (Interpath) من خلال نصه المشبع بالخيال والحقيقة، لأن هناك شروط عديدة بين أصحاب الديانات المختلفة، كالدعوة إلي رب السموات والأرض، بالحكمة والموعظة الحسنة والابتعاد عن العنف وكل ما يؤدي له، والتعصب لفريق معين علي حساب فريق آخر، واستخدام العقل وجوهره في جميع الأمور، واعتماد أساليب البرهان الذي يحق الحق ويزهق الباطل. والإقناع أيضاً والإيمان الكامل بالدين ومبادئه الأساسية والأهداف التي جاء بها والتوسع باستخدام العلم في الحياة الدنيوية والدينية، والحث علي الاستقلالية في التفكير. كان دلمار بن أرياط (ترجمان الملك) هو النموذج للكنيسة عندما يأتي العرب إلي الحبشة بغرض التجارة أو غيرها، فأمية إبن أبي الصلت الذي ترك بناته في اليمن وجاء إلي (سوبا) ليحاور الأسقف حول المذهب الذي تتبعه الكنيسة في مملكة (علوة) _والمعروف أن أمية بن أبي الصلت موقفه من الرسول (ص) حينها_ كان مُحباً للسفر والترحال، فاتصل بالفُرس في اليمن وسمع منهم قصصهم وأخبارهم، ورحل إلى الشام في رحلات تجارية وقصد الكهان والقساوسة والأحبار وسمع وعظهم وأحاديثهم، وكان كثير الاطلاع على كتب الأديان والكتب القديمة فاطلع على التوراة والإنجيل كما أنه كان كثير الاختلاف والتردد على الكنائس ورجال الدين، وكان مُهتماً بيوم البعث والحساب والجنة والنار فكان يكثر من ذكرها بأشعاره وأسجاعه، وكان أحد رؤوس الحنفاء في الجزيرة العربية المُنادين بتوحيد الخالق ونبذ الأوثان وما دون الله. والحنيفية قبل الإسلام كانت مدرسة ناشئة تجديدية تأثرت باليهودية والنصرانية وأدركت الوضع السيئ لحال العرب الديني الجاهلي، فالتجأت إلى التوحيد والأمر بالارتقاء العقلي والأخلاقي والثقافة والتعلم، غير أن الأحناف لم تكن لهم عقيدة معينة فكانوا يختلفون بآرائهم ويجتمعون على التوحيد ورقي التفكير، وأمية بن أبي الصلت يُعد أشهر هؤلاء الأحناف مع قس بن ساعدة وورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث، وغيرهم. وهنا في رواية (ترجمان الملك) نجد كل ذلك وهو يجادل ويحاور الأسقف والكهنة حول تأريخ الكنيسة ليرد عليه رئيس الكهنة في (صفحة 26 ) من الرواية قائلاً :
(( أنت سمعت القصة المختلفة من أهل غزة يا ” إبن أبي الصلت ” وهم يزعمون البشارة وصلت إلينا عن طريق “متي” العشار حين أمره “بطرس” بالقدوم إلي بلادنا بعد بني كنيسة روما، في العام 62 لميلاد المسيح له المجد، لتنفيذ وصية المسيح بتلمذة جميع الأمم، ولكنني أؤكد لك أن هذه قصة لا أساس لها وأن “متي” تنيح قبل أن يصل إلي بلادنا، وأن من جاء إلينا بهذا النور هو جدي (فرمنتيوس)، بعد أن تمت رسامته من قبل (أثناسيوس) بطريرك الإسكندرية عام 326، وهو أول مطران لبلادنا. وأنت تعلم أنه بعد مجمع (نيقية) ثم مجمع (خلقيدونية)، عام 451 انفصلنا عن روما وغيرها وأنني كمطران لكنيسة علوة لا أتبع إلا للإسكندرية. ))
ثم قال رئيس الكهنة لأمية (صفحة 28):
أنا مندهش من إجتهادك من أجل معرفة عقائد الكنيسة ( يا إبن أبي الصلت ) مع أنك أخطأت فهمها. وعلي كل حال أنت حر في أن تعتقد ما تشاء، ولكن مذهبنا هو الحق الذي أقره مجمع “أفسس” منذ عام 431 ميلادية. … إلخ !
وكل هذا السرد، لم يكن مقنعاً لــ(لأمية إبن أبي الصلت) فجعله ضاحكاً وهو يقول لرئيس الكهنة أنني أتفق معك ولكن كان رأيه مغايراً لأن دلمار كان يترجم (الإنجيل) لأمية ولذلك كان يعتبر أن ترجمة دلمار للإنجيل هي الصحيحة حيث أن دلمار _ حسب ما قاله سيسي _ قال لكبير القساوسة (صفحة 81) من الرواية :
_ ((أنتم تقرأون في الكنيسة من نسخة وصلت إليكم من الإسكندرية وفيها نصوص مترجمة تخالف ما تعلمناه من الكهنة الذين توارثوا هذا العلم منذ عهد (فرمنتيوس السرياني) وتناسيتم الترجمة الحبشية الأصلية التي عمرها أكثر من مائتين وخمسين سنة والتي كتبها فرمنتيوس السرياني باللغة الآرامية لغة المسيح، واعتمدها عيزانا ملك أكسوم منذ العام 340 حين تحولت جميع بلادنا إلي المسيحية. وهي محفوظة عندي. هذه هي الترجمة التي يجب أن تسود في بلادنا وليست الترجمة القادمة من الإسكندرية يا نيافة الكاهن.))
ولذلك كان أمية يستنبط ويستوعب الدروس والمحاضرات من الكهنة والقساوسة عن الكنيسة أكثر مما يقوله في المقارنة، وبالطبع هي ما كانت ترنو له حينها الكنيسة في ذاك الوقت لتنفيذ الوصية بأن الكنيسة تعلم الإنسان المحبة والتسامح والرفق والاهتمام بالإنسان والحياة واعتبار قدسية الحياة والحفاظ عليها من أجل سعادة الإنسان وأمنه ورفاهيته. والرواية مليئة بالأحداث التي تنقلنا بين طيات صفحاتها عن حوار الأديان. و حوار الأديان هو مصطلح يُشير إلى التفاعل، والبناء الإيجابي بين الناس من تقاليد دينية مختلفة، ومعتقدات روحيّة، وإنسانيّة سواء كان ذلك على مستوى الفرديّة، والمؤسسيّة، وهو يختلف عن التوفيق بين المعتقدات أو الدين البديل؛ حيث يتم في هذا الحوار تعزيز التفاهم بين الأديان أو المعتقدات المختلفة لزيادة قبول الآخر، بدلاً من تجميع معتقدات جديدة.
فعندما زار (الزبير) مملكة (علوة) أخذه (سيسي) بن دلمار ليتجولوا في طرقات سوبا، فــ(الزبير) من أقارب الرسول (ص) وهو إبن خاله، ويصفه (سيسي) ( صفحة 87) من الرواية قائلاً :
(( كان (الزبير) مختلفاً عن كل من عرفتهم من الأصدقاء. لم تبهره روعة سوبا ومبانيها وحضارتها، ولا حتي كنيسة (مارية). ))
فكان الزبير صامتاً بليغاً في صمته، في تجواله مع (سيسي) إلي أن دخلا النيل، وقد يدلنا هنا الحوار التالي لما يشكل علاقة الإسلام بالتسامح بتشريح إيجابي للكنيسة، وأن الإسلام كان دائماً يعلم التسامح ويفرضه حيث وجد. هذا في حين أن بقية الأديان الأخرى، وبخاصة الأقرب إليهم كاليهودية والمسيحية، كانت متعصبة وغير متسامحة، عكس ما كان يتحدثون به، قال (سيسي) ظل الزبير صامتاً ولم يجبني، وخرج من الماء علي الشاطئ ومد يده وغرف من الماء، وذاقه ثم شرب، ثم اغتسل بنفس الطريقة التي رأيتهم يفعلونها في بيت (تانيشا).
_ أنتم تغتسلون كثيراً يا زبير! رأيتك تفعل هذا في البيت.
_ نتوضأ لكل صلاة! هكذا علمنا النبي.
هنا يريد الزبير أن يلقن (سيسي) بسلاسة أن نبيه، كيف كان يعلمه الدين الاسلامي، كما كان يشرح (سيسي) لأمية إبن أبي الصلت ماهية الكنيسة وما تحويه من تقاليد دينية. قال الزبير بذات الحوار.
_ ولكننا نتوضأ للصلاة، بل نصلي هكذا مباشرة. هل نبيكم نصراني أيضاً يا زبير؟
_ لا لا .. نبينا مسلم ونحن مسلمون.
_ من هو هذا النبي؟
_ محمد بن عبد الله، هو رسول المسلمين! وهو إبن خالي، وزوج عمتي خديجة بنت خويلد.
_ أنت ابن عمة نبي ؟!
إنها دهشة الحوار والكتابة الإبداعية التي أمتعنا بها الراوي، والتسلسل في أحداثها بحيث أنك لا تستطيع أن تنفك منها، وهذا دلالة علي أن الراوي له إستراتيجياته في الكتابة، بالإضافة لأنه يمتلك ناصية من المهارات لتحقيق التواصل والإحاطة المعلوماتية الدقيقة من خلال الخيال والحقائق، للإقناع والتفاعل مع الآخرين داخل النص.
ثم يواصل (الزبير) الحوار مع (سيسي):
_ نعم .. أمي صفية بنت عبد المطلب، وأبوه عبد الله بن عبد المطلب.
وهكذا يسرح بنا الحوار والتخيل. سأل (الزبير) هنا (سيسي) بعد صمت وتفاصيل كثيرة:
_ هل (النجاشي) نصراني؟
_ نعم نعم وكذلك جدي وأمي وأنا.
وكأنما هنا يريد أن يمجد ويفتخر بديانة الكنيسة كما إفتخر له (الزبير) بإبن خاله (محمد) رسول المسلمين، صل الله عليه وسلم، ثم يستمر في مدح جده (دلمار) بأنه يذهب للكنيسة وهو يعرف الأناجيل ويقرأ الكتاب المقدس ، إنه بارع جداً .. وهو يملك أقدم نسخة من الإنجيل في علوة. توارثها عن أجداده ولكن الكنيسة لا تقدر أن تنتزعها منه لأن لجدي نفوذاً كبيراً عند النجاشي.
وهكذا تأخذنا رواية (ترجمان الملك) بين هذه الحوارات حتي نهايتها، ولا يمكن لهذا المقال تشريحها كلها، ولكن هذا غيض من فيضٍ كثير للغموض الذي يكتنف التأريخ في هذه الرواية بوصفه معرفة، والتأريخ بوصفه حدثاً هو علامة علي أن التأريخ عبارة عن طريقة منضبطة يريد أن يقولها لنا _ د. عمر فضل الله _ لتصور الماضي. إنها حقاً رواية مختلفة تماماً عما نقرأه في الساحات الأدبية. وهي من روايات التأريخ المشيد بروحية الحداثة والذي بدوره هو تأريخاً تنويرياً يستند إلي تقنيات كـ(البحث في الماضي) والسعي وراء أخلاقيات معينة أرادها الراوي أن تكون سياحية تاريخية روائية بتكنيك المحترف في الكتابة الإبداعية داخل قالب حداثوي كما قرأناه في هذه الرواية التاريخية (ترجمان الملك).
وختماً حاولت جاهداً من خلال هذه الومضة أن أجوس سريعاً مع (حوار الأديان _ Interpath) في ديار مملكة (علوة المسيحية) آخذاً نماذج خفيفة داخل هذا النص من الرواية التي تجمع أيضاً أنماطاً أدبية أخري .
والله ولي التوفيق والمستعان
محمد العكام
كسلا _ السودان
13/ ديسمبر 2016 م