رأيته هناك جالساً على كرسيه المكتوب عليه اسمه. وزملاؤه قد تحلقوا حوله مثلما اعتادوا كل يوم. لا يريدون أن تفوتهم الحكايات. عباس ممتع أكثر من الراديو والتلفاز والسينما مجتمعة.. حين يجلس ويحكي تتوقف الحياة والحركة في المستشفى ويتحلق الجميع حوله ويتركون كل شيء وكأنهم يشاهدون نهائيات مباريات كأس العالم لكرة القدم. وعباس يطرب لذلك، وهو لا يبذل أي عناء لتذكر الحكايات. من يستمع إليه يظن أنه يقوم بإعدادها ومراجعتها في غرفته قبل أن يأتي إلى الصالة. والواقع هو أنه لا يتكلفها ولا يفكر فيها فما إن يجلس حتى تنساب من فمه وكأنه يدير مُشَغِّل اسطوانات. لا يتردد ولا يتلجلج ولا يسكت. الممرضات عوقبن في البداية من وراء إهمال عملهن من أجل الاستماع إلى حكايات عباس الممتعة ولكن العقوبة توقفت لما بدأ الأطباء يدمنونه. الناس قالوا إن عباس مخالطه جني يأتيه بالقصص والحكايات. ولكن أي جني وعباس رجل كثير الصلاة ويقرأ القرآن. الممرضات كن يشاهدنه في غرفته وهو دائم الصلاة والتضرع. وهو جميل الصوت حين يتغنى بالقرآن. وصوته حزين وبه بحة محببة. صحيح أنه جاء إلى مستشفى الأمراض النفسية منذ عشرة أعوام وهو لا يزال هنا في نفس الغرفة والجناح. لم يأت معه أي من أقاربه أو أهله فالناس لا يعرفون له أي أقارب أو أهل.. هو يزعم أنه من السمحة وأهل السمحة لا يذكرونه. فقد جاء وحده وأصر أن يقابل دكتور طه ليعاينه ويفحصه فهو لا يثق في أي طبيب ماعدا دكتور طه. دكتور طه ظن في بداية التشخيص أن عباس مصاب بانفصام الشخصية، ثم عدل عن رأيه بعد أن استمع إليه كثيراً وقال إن عقله سليم وإنه صحيح البدن ولا يشكو من أي علة أو مرض. ونصحه بالمغادرة. ولكن عباس انخرط في بكاء بصوت عال مثل الأطفال ولم يسكت أبداً حتى بعد أن تجاهله دكتور طه الساعات الطوال. المستشفى كله توتر للبكاء والممرضات بكين لبكائه. دكتور طه أراد أن يحل المشكلة فسمح له بالبقاء يوماً واحداً على أن يغادر صباح اليوم التالي. ولكن عباس تمكن من التأثير على الجميع وأقنعهم بالبقاء. عباس يملك قدرة عجيبة على إدخال البهجة في قلوب الناس. المستشفى تبدل حاله والمرضى الذين كانوا مصابين بحالات الاكتئاب أصيبوا بنوع من البهجة الصاخبة والمرح العجيب. دكتور طه ما يزال يعتقد أن عباس سليم وبصحة جيدة وأنه محتال وجد أن المستشفى هو أفضل مكان يوفر له المأوى والمأكل والمشرب والأنس ولكن الممرضات لا يتفقن معه في هذا التشخيص. حين جاء إلى المستشفى كان في الثلاثين من عمره وهو الآن في الأربعين. عباس نحيف البدن بصورة مخيفة وكأنه يعاني من السل ولكن نحافته لم تثبط من معنوياته ولم تمنعه الحركة. حين يجلس على الكرسي تظنه شبحاً من الأشباح فمعظم الكرسي يبقى فارغاً ولكنه حين يبدأ الحديث يمتليء ذلك الكرسي حيوية وحركة وتدب فيه الحياة. في رأسه بقايا شعيرات نمت هنا وهناك متناثرة دون ترتيب وكأنها تبحث عن شيء ضائع. وواضح أنها لم تعرف المشط ولا الحلاق منذ فترة طويلة. وحين ينطلق عباس في الحديث ينسى نفسه فيهرشها أحياناً بأظافره التي فقدت الأمل في القص والتشذيب واختبأت تحتها الأوساخ. بعض الممرضين أو الممرضات يتبرعون أحياناً بتمشيطها أو حلقها تماماً. عباس لا يحب أن يلمس أحد شعره ولكنه يستسلم تحت إلحاح الممرضات أو الممرضين. عباس يشبه معظم أهل البلد ولكنه أشجع منهم. كثيرون مصابون بمثل مرض عباس. مشكلات هذه البلد تسبب الأزمات النفسية وقليل منهم من ينتبه إلى أنه مريض. الأمراض النفسية أصبحت شيئاً مثل الزكام. الكل يصاب به. هذا البلد يملك قدرة هائلة على إصابتك بالإحباط والانفصام. الشباب أبناء العشرين أصبحوا يسيرون في الطرقات وظهورهم مقوسة مثل ابن التسعين. العشرون في هذا الزمان أصبحت مثل التسعين. الشعور بالضياع هو شيء تستيقظ من نومك وأنت تحس به. تتردد كثيراً قبل أن تدلي قدميك من السرير تبحث عن حذاء. وغالباً لا تجده لأن أحدهم سبقك فسطا عليه ليلاً. البلد تضيع كل يوم مثل هذا الحذاء. العسكر تعودوا السطو عليها ليلاً وحين يستيقظ الشعب يجد أن أقداماً أخرى لبست الحذاء. وقد لا يكون نفس المقاس ولكنهم لا يبالون.. المهم هو حذاء والسلام.
اضف تعليقا