في تاريخ السودان فترات تستحق الوقوف عندها وكشفها لما فيها من أسرار وتعتيم، أو مسكوت عنها وبعض تاريخنا منسوب لغيرنا. بعضه طمرته الصحراء، وبعضه طمرته البحيرات سواء عن عمد أو عن جهل، وكلّ هذا يجب الوقوف عنده. وقد حاول روائيون معاصرون التعرّض لمثل هذا الشيء مثلما تعرّض له الأخ الصديق “الزين بانقا” في روايته (ثورة العبيد). و(زهرة الصبّار). والروائي الرائع “حمور زيادة” في روايته (شوق الدرويش) تعرّض لفترة دقيقة نهايه العهد التركي وبدايات الثورة المهديّة وفترة “عبد الله التعايشي” والفوضى التّي صحبتها. وكذلك الأخ الروائي الدكتور/ إبراهيم جبريل في روايته (رحلة الشركسي من الشيشان إلي شيكان). تعالج ذات الفترة من نهاية الحكم التركي وفترة المهديّة وحتّى نهاية عهد “عبد الله التعايشي”. والآن الروائي الرائع الدكتور “عمر فضل الله” في رائعته “ترجمان الملك” ….
• المقدمة عبارة عن مدخل لنبش مقبرة بـ”سوبا” وجعل الشابّ “سيسّي بن أبيلو بن دلمار” يستيقظ من قبره ليروى لنا حكايته، وهي لفتة تكنيكيّة ذكيّة من الكاتب شبيهة بلفتة “يوسف زيدان” حيث استحدث لفتة تكنيكيّة ذكيّة مدعياً أنّه عثر علي مخطوط قديم وهو لا يفعل شيئاَ سوى ترجمة المخطوط.
• لاحظت أنّ الرواية تحتاج لجرعة أكبر من اللغة الأدبيّة بدلاً من اللغة الأقرب للغة الإعلاميّة.
• الرواية المعاصرة بعيدة عن استخدام الزمن الخيطي المتتابع، لا بدّ من تكتيكات أخرى مثل الفلاش باك والحوار، والتقطيع وتداخل الزمن. وتداخل الأمكنة والرسم بالكلمات، والإهتمام بموسيقى المفردة والعبارة، واستعمال اللغة الصوتيّة حتّى تكون الرواية بحقّ هي (ديوان العصر) قادرة علي استيعاب كلّ الأجناس الفنيّة؛ من قصّة قصيرة ومسرح وشعر وتشكيل وموسيقى. • بناء الشخصيّات منتهى الروعة؛ مثل “دلمار” و”سنجاتا” و”تانيشا” كما أنّ الأسماء موسيقيّة وتجمع بينها علاقات حميمة ومدهشة.
• يجب أن يتذكّر الكاتب أنّه يكتب للمتلقّي العادي، وحتّى للمثقف العادي، لا للصفوة أو صفوة الصفوة؛ من غيرهم يفهم أنّ “سوبا” عاصمة الحبشة هناك قلّة قليلة جدّاً يدّعون أنّ الهجرة الأولى كانت للسودان “علوة” ربّما وليست للحبشة… مَن غير “عبد الله الطيّب” و”حسن مكّي” وأمثالهما يمكن أن يناصر هذه الإدعاءات؟ الإنسان العادي يعرف أنّ الحبشة شيء غير السودان..غير “علوة” وأنّ “النجاشي” ملك الحبشة وعاصمته غير “سوبا”، أنا أتفهّم قصد الكاتب جيّداً لكن ربما يجد هذا الوضع رفضاً من البعض؛ ربما يعتبرون أن تكون “سوبا” عاصمة الحبشة مجرّد هراء. بعض المثقفين الإرتريّين يدّعون أن المهاجرين نزلوا في “مصوّع” التي قطعاً كانت وقتها تابعة لـ”علوة” وكما يدّعي البعض أنّ أحد المهاجرين تزوّج من إرتريّة وأنجبا بنتاً سمّياها “زينبش” وأنّ إحدى حفيدات “زينبش” هذه اصطادت سائحاً روسيّاً تزوّجها وأنجبا طفلاً هو “بوشكين” شاعر “روسيا” الأشهر، وأنّ “بوشكين” يتفاخر دائماً بالدم الحبشيّ والدم القرشيّ الذي يجري في عروقه، وأنا أتفهّم التداخل بين “علوة” و”الحبشة” “علوة” تمتدّ إلي مناطق شمال غرب بحيرة “تانا” وجنوب شرقها حتّى “قندر” وأنّ “عيناتا” كان يسمّي نفسه ملك الحبشة وحضرموت وبلاد “تنهسو” يعني (الحبشة واليمن والسودان) لكن علي الكاتب أن يحسب مثل هذه الأمور حساباً دقيقاً في مثل هذه الروايات التّاريخيّة
• في الرواية المعاصرة ما يسمّي اللغة الإشاريّة؛ أن تستدعي أشخاص ومواقف وأحداث بلغة الإشارة دون استعمال أيّ تقرير؛ أن ينادي “سيسّي” أمّه : يا “ماكدة”! الكاتب هنا يستدعي “بلقيس” ملكة “سبأ” وكلّ الإشارات الحبشيّة أنّهم من نسل “بلقيس وسليمان” فـ”بلقيس” في “سبأ” يسمّيها العرب “ماقدة” لاحظ الإشارة الصوتيّة، لا فرق سوى لكنة الحبش. العلاقة الحميمة بين “سيسّي” و”الزبير” وإعجاب “سيسّي” بأخلاق العرب وصلاتهم ودينهم الجديد وإعجابه بزجر جدّه لرئيس الكهنة، وكون “سيسّي” مستشار “النجاشي” فيه إشارة ربّما لاعتناق “النجاشي” للإسلام دون أن يقرّر ذلك قولاً. • الإشارات الذكيّة والإستشهاد بآيات التوراة ما يفيد بقدوم “المسيّا” وحديث الساحرة “سيمونة” عن قدوم “شيلون” وأنّ “المسيّا” من خارج ملة اليهود وهو من أبناء “إسماعيل” أي العرب مما حدا باليهود لتزوير التوراة حتّي يكون النبيّ من أبناء “اسحق” وليس من أبناء ” إسماعيل” ونسوا أن يعدلوا (ابنك الوحيد) لأنّ “إسحق” لم يكن ابن “إبراهيم” –عليه السّلام- الوحيد عندها فـ”إسماعيل” أكبر من “إسحق” و(ابنك الوحيد) تعني “إسماعيل” وليس “إسحق” فأسقط في يد اليهود.
• حبّ “تانيشا” لزوجها الذي افتقدته وحسرة “سيسّي” على أبيه جميل هو إخفاء كيفيّة موت “أبيلو” إلي النهاية يشوّق القارئ أن يقرأ ويقرأ علّه يكتشف كيف مات “أبيلو” وكما يبدو لي فإنّ الكاتب تعمّد عمليّة الإخفاء كنوع من التكنيك الداعم لعمليّة التشويق والبحث.
• “ديمونة” والفتاة العربيّة التّي أرسلها والدها اليهودي “لبيد بن الأعصم” لتتعلّم السحر في “علوة” “سوبا” فيه إشارة ذكيّة للعلاقات بين العرب والسودان حتّى قبل الفتوحات الإسلاميّة.
• بعض الأحداث الغريبة مثل ذهاب الأمير “أصحمة” بن النجاشي مع الساحرات الصغيرات إلي جزيرة “التمساح” وكيف خدّرنه بـ”الخشخاش” وعبثن به، وزيارته للكنيسة وتقبيل الراهبات له وأنّ إحداهنّ قبّلته في فمه قائلة أنّ هذه قبلة مقدّسة، والغرف داخل الكنيسة ممنوع الدّخول فيها، وفي الكنيسة غرفة خاصّة بالساحرة “سيمونة” رغم عدائها لكبير الكهنة …إشارات لمعتقدات شعب “علوة” المتناقضة بين الوثتيّة والنصرانيّة. • مشهد الجولة في سوق العبيد مع “أبرهيت” ومن بعدها اختطاف الأمير “أصحمة” مشهد رائع مؤثّر تمّ رسمه بدقّة واحترافيّة شديدة … وتجارة الرقيق من القضايا المسكوت عنها في تاريخ السّودان، وقد أبدع الكاتب في كشفها وتصويرها وتعريتها.
• رحلة أصحمة مع العبوديّة كانت مدهشة لكن أن ينقذه “دلمار” كانت مفاجأة لي (تحسب للكاتب). • العادات والتقاليد وبعض الملابس تمّ عرضها بتقريريّة، يجب أن تأتي من خلال حياة النّاس العادية كأن تدعو “ناتيشا” إحدى العربيّات لحفرة الدخان ثمّ يأتي التعرّف عليها وهكذا. • الحوار بين كبير الكهنة وسيسّي أكبر من “سيسّي”. وعلي وجه العموم: الرواية جميلة… جميلة… جميلة!
اضف تعليقا