القاريء الحصيف لوقع الأحداث السياسية ومسارها في السودان لن يجهد في اكتشاف ارهاصات التغيير القادم في السودان وأنه سيكون ربيعاً سودانياً لا يشبه ثورات الربيع العربي الماضية والتي حاول السودانيون تقليدها وفشلوا نظراً لضعف تنظيم المعارضة أمام بطش السلطة الحاكمة وجبروتها. فالنظام القائم كان حينها قد أحاط نفسه بمنظومات أمنية ودفاعية تعاملت مع المتظاهرين باعتبار أنهم مقاتلون أو طابور مساند للمليشيات المحاربة للنظام في أطراف البلاد وأن تلك المليشيات تقوم بعمل تخريبي يمهد لإسقاط النظام فبرر لنفسه بذلك إطلاق النار على كل متظاهر ذكراً أم أنثى صغيراً أم كبيراً.
قراءتي هي أن التغيير في هذه المرة سيأتي من داخل أروقة النظام والتنظيم ويكون تغييراً غير تقليدي يعصف بالكثير من المسلمات التي درج مساندو النظام على اعتبارها حواجز لا يمكن تخطيها أو أعراف أخلاقية لا يجوز للمخالف الخروج عليها مهما بلغت عداوته ناهيك أن يكون من بني جلدتهم وعضوية تنظيمهم. ولن أتكلم الآن عن دموية التغيير أو سلميته فذلك أمر متروك لحنكة الانقلابيين وتدابيرهم.
النظام القائم الآن وصل للسلطة عن طريق الخداع وجاء بالقوة والقهر ولم يكن في يوم من الأيام حُكماً رضائياً بتفويض من الشعب، بل كان يتصرف دائماً وفق مبدأ القوة والاستحواذ، وتوسل لتحقيق ذلك بالتراتيب الجبرية القهرية، وحصر تداول السلطة في يد الأقلية المنسوبة إلى حزبه الحاكم واعتبر الولاء لها مقدماً على الكفاءة والأمانة في تولية المناصب.
وفي ظل الحماية الحزبية تمكنت الأقلية التي تتمتع بالحصانة من نهب الثروات والمقدرات تحت سمع وبصر المجموعات النافذة الحاكمة أو بطانتها وبغطاء الاستثمار الحزبي أو الحكومي أو التنظيمي، وتداخلت هذه الدوائر لدرجة أصبح من الصعب فيها التفريق بين ما هو في حيازة الحكومة وما هو من ممتلكات الحزب أو التنظيم، الذي أصبح مجموعات متباغضة متنافرة تدعي كل منها بأنها هي التنظيم وأنها هي الجماعة وأن الآخرين خارجون عليها. وياله من باب للاستبداد السياسي، والفساد الإقتصادي والظلم الإجتماعي فتحته هذه الجماعات ولم تقدر على إغلاقه.
ودعنا نغض البصر الآن قليلاً عن الحرب التي ورثها النظام ثم أجج نيرانها ليخسر آخر الأمر ما كان يقاتل من أجله منذ أن جاء، لئلا يصرفنا ذلك عن مقاصد هذا المقال ولنخلص إلى أن النظام لم يكن في سبيل حماية المصالح الشخصية للقلة المتنفذة الحاكمة ليتحرج أن يرهن مستقبل البلاد وثروات أهلها ويدخلها في قروض وديون ذات أرقام فلكية، يبذلها لضمان استمرار هذه القلة وبقائها، وهي قلة تملي السياسات والمواقف وفقاً لمصالحها، دونما اكثرات لشعبها، وكانت النتيجة هي ما نسمع ونرى ونعيش من واقع البلاد فلا عجب أن ينتهي به الأمر إلى أن يكون مثل ثور الساقية يدور حول نفسه والساقية ليست متصلة بمصدر الماء فانقطع الحبل الذي يوصله بشعبه. والنتيجة الطبيعية المتوقعة هي أن يثور الشعب ليطيح بهذا النظام. ولكن النتيجة المفاجئة وغير المتوقعة هي زوال النظام من الداخل نتيجة الصراع الخفي والمعلن حول تداول السلطة. وربما يقول قائل إن كنت تتوقع هذا والنظام لم يذهب بعد فلماذا تذيع هذا الكلام الآن؟ ألن يكون حائلاً دون تحقيقه حيث سينبه القائمين على الأمر ليأخذوا حذرهم؟ فأقول لك اطمئن فإن الحجر الساقط من رأس الجبل لن يرده شيء حتى يبلغ منتهاه – وقد بدأ الحجر رحلة السقوط فعلاً- فالمجموعات المتصارعة حول السلطة أوصلها الجشع حداً أعماها عن رؤية ما ينتظرها من السقوط ولن تنتبه حتى يصل الحجر إلى القاع. وكثير منهم لن يقرأ هذا المقال بالطبع فهم أمة أمية وليست بقارئة، والقاريء منهم ربما يمر مقالي هذا تحت عينيه دون أن يكترث فهو مشغول بقراءة أشياء أخرى، والعاقل من يكمل قراءته حتى آخره ليرى ربما من باب التسلية والفضول إلى أي شيء يخلص.
ولن أشغل نفسي مثلما لن أشغلك بتفاصيل ما سيحدث فهو أمر واقع وكأنه يدخل في حكم الماضي، بل سأخلص معك إلى مضمون المقال.
ما بعد التغيير .. نصيحة للقادم
يها الحكام الجدد!! أيها الغرباء القادمون:
أنتم استبدلتم نظاماً قديماً بآخر جديد، تنشدون في ذلك التحرر من الإستبداد السياسي ربما ، فلا تستبدلوا استبداداً باستبداد. واحرصوا أن تكون رؤيتكم للأمور واضحة فإن لم تكن مضامين ثورتكم ومبررات مجيئكم محددة منذ البدء ولم تكن برامجكم للتغيير محكمة بعد ذهاب النظام الحالي، ولم تجيبوا على أسئلة الانتقال والتحول الدستورى من أول يوم فلا خير من مجيئكم، وليتكم لم تأتوا، فستكونون شر خلف لشر سلف وسيظل الثور يحرث نفس الساقية المشئومة.
هل ستقعون في المأزق الذي وقعت فيه جميع الثورات؟ مأزق التسليم بالديموقراطية أسلوباً للحكم دون التوافق حول مضامين هذه الديمقراطية كأسلوب والأشكال العملية للتعبير عنها، وأى هذه الاشكال هو الأنسب لبلادنا؟ هل هو النموذج الجاهز الموروث للتعبير الديموقراطي؟ وبصفة خاصة هل النموذج الليبرالي النيابي هو أنسب أشكال التعبير في السودان؟ وهل هو أحكم المخرجات وأعدلها؟ وهل يعبر عن أكثرية الشعب؟ أم أنه يعكس رغبات أقليات نافذة ، ومصالح مجموعات ضيقة ، مثلما هو حادث الآن في النظام الحالي قبل السقوط؟ وهل الآليات الإنتخابية التي تختار النواب ورأس الدولة تنتخب الشخص المناسب أم أنها تؤدي لانتخاب المفضول دون الفاضل؟
وقس على هذا في بقية الأصعدة فعلى صعيد النظام الإقتصادي، هل ستتبنون دون تحفظ النموذج الغالب فى عالم اليوم ، وبصفة خاصة أنموذج السوق الرأسمالي التنافسي الحر في اقتصاد تتفاوت فيه الدخول، مثلما هو الحال فى مجتمعنا السوداني فتقومون بتعزيز التفاوت الحاصل ابتداءًا ، ليزداد الأغنياء غنىً والفقراء فقراً ؟ وتتركز الثروة فى أيدى القلة؟ لو فعلتم ذلك لأدى هذا إلى التأثير على النظام السياسي وعلى منظومة صناعة القرار فتنحسر قدرة الأغلبية الجماهيرية في التأثير على الواقع السياسى للبلاد.. فأعدوا لهذا السؤال جواباً.
هل تنوون نقل مقاليد السلطة والثروة ومقدرات المجتمع من أيدى القلة إلى الأكثرية؟
هل لديكم نظرية إجتماعية ترسم الحدود بين السلطة التنفيذية ومؤسسات المجتمع لصالح الشعب؟ هل لديكم الآليات لفطم المجتمع الرضيع دون تعسف وتمكينه من الوفاء بحاجاته دون تعويل على آلية السلطة؟ وهل ياترى سيتحقق هذا في ظل الأنماط الإقتصادية والسياسية القائمة التي تضع مقاليد السلطة والثورة في أيدي الأفراد والصفوة؟ وهل لديكم خطة محكمة للتوزيع العادل الحصيف للثروة والسلطة؟
ماذا أعددتم لعلاج وباء الطائفيات والمذهبيات والعصبيات القبلية والجهوية؟ ولمداواة تلك الأمراض التي تهدم مباديء المساواة والمواطنة، والعدالة والحرية، وتعرقل السعي نحو الإجماع الوطني والوحدة؟
هل ستكون قواتكم المسلحة نسخة قبيحة للمدرسة العسكرية الغربية أو الشرقية؟ أم لديكم نظريتكم الوطنية السودانية للعقيدة العسكرية، ونظم التدريب والترقيات، والعلاقات الرأسية والأفقية التي تعكس ثقافات أهل السودان؟ وهل سيظل جيشكم علمانياً محضاً أم ياترى سيعبر عن بيئات وتقاليد المجتمع السوداني وأعرافه؟
وعلي مستوي جهاز الأمن والمخابرات الوطني هل سيظل هدفه الأول حراسة نظامكم الحاكم الجديد على حساب حماية الأمن القومي؟ وهل سيحصن نفسه ونشاطه بالأنظمة والقوانين الخاصة التي تجعله فوق المساءلة؟ وهل سيظل دولة داخل الدولة؟ ومن الذي سيقوم بمساءلته إن أخطأ أو تجاوز وما الضمان ألا يصبح ذراعاً للفساد والإفساد؟ وهل سيتبنى نظرية الأمن القومي المبنية علي فكرة المهددات، والتي تسعى لتحقيق غاية أساسية هي حماية الوضع الراهن والنظام الحاكم؟ وهل سيبقى كما هو أداة للقمع والبطش والفتك بالمواطنين؟
هل أعددتم أجوبة لقضايا علاقاتكم الخارجية والتزامات بلادكم؟ وهل ستحترمون المعاهدات والإتفاقات الدولية التي وقعت في غياب السيادة وغفلة الشعوب؟ وهل ستساندون الأنظمة الدولية الظالمة والعلاقات المختلة في مسرح العلاقات الدولية؟ ومع أي القوى والموازين ستقفون؟ أم أن لديكم استراتيجيتكم المحكمة للعلاقات الخارجية؟
أين مكانكم في العالم الحديث المتشابك والمتواصل من جهة، والمتصارع من جهةٍ أخرى وهل أنتم مستعدون لأعلاء المباديء وعدم إهمال المصالح؟ هل لديكم أنموذج للعلاقات الدولية يرعى حرية الأفراد والجماعات، ويصون حقوق الإنسان والمجتمعات، ويشيع العدل والمساواة ، وينبذ إزدواجية المعايير ويأخذ بأيدي المستضعفين، مستهديا بقيمة وحدة الإنسان في الأصل والمصير؟
هل أنتم مستعدون لمواجهة التحدي في إدارة الحوار الداخلي حول قضايا الهوية ، والتعددية الدينية والإثنية، وتوزيع الثروة والسلطة ، وشكل النظام السياسي الذي يتواءم مع المكونات الثقافية والإجتماعية للسودان ويضمن توزيع السلطة بالشكل المنشود ، والنظام الإقتصادى الذي يتوافق مع مكونات المجتمع السوداني الفكرية ومعطياته الثقافية ، ويضمن التوزيع الأعدل للثروة ؟
راءاتنا تقول إن النظام الحالي سينقلب على نفسه من بعض أعوانه وأنه سيسنده ويحميه عمل داخلي، فيا أيها القادمون أياً ما كنتم بالله عليكم رفقاً بهذا الوطن وأبنائه فلا تتحركوا ولا تفعلوا شيئاً حتى تجيبوا عن هذه الأسئلة. فالأجيال الحالية والتي ظلت ضحية الانقلابات العشوائية في البلاد لا تريد أن تسمع بياناً رقم واحد أو رقم مائة مثل البيانات السابقة للانقلابات القميئة التي تدخل البلاد في ساقية تدور في الهواء يجرها ثور أعمى سرعان ما يسقط في البئر المعطلة وهو يحلم بالقصر المشيد.
اضف تعليقا