الكتاب انفاس صليحه
الكاتب عمر فضل الله
عدد الصفحات 🙁 245)، الناشر: مدارات
مراجعة: د سامية عباس كرجويل
والمثل القائل: “عجوبه خربت سويا”
هذه الرواية من الروايات المعرفية وقد حكت عن احداث تاريخية وتحديدا عن “مملكة علوه المسيحية” والتي كانت عاصمتها “مدينة سوبا “. سلطت الرواية الضوء من خلال احداث درامية أسباب ضعفها وسقوطها في يد العرب القواسمة. عند تفكيك عنوان الرواية يكتنفه الغموض وعدم الدلالة وبالتالي يثير تساؤلات عديده حول من هي صليحه واهمية هدا الاسم تاريخيا ولا اجابة هناك الا بعد قراءة متن الرواية، ولذلك اري انه غير جاذب ولا يتشوق القارئ للاطلاع عليها الا بعد ان يقرأ ما ورد في التنويه لما رمت اليه الرواية.
تم عرض الرواية بطريقة جديده وفيها كسر للرتابة والملل لاختلافه عن طريقة العرض التقليدية فعرض إحداث الرواية مبني على فكرة شاهد على العصر. كما حكت الرواية عن سقوط “سوبا ” بعد ما كانت عصية على الاعداء وبعد حصار من العرب القواسمة دام لمدة سنتين قطع فيها الامدادات والمؤن عنها. فالحصار يضاهي ملحمة “الالياذة” التي دونها “هوميروس ” وحكاية حصان “طروادة” يتكرر في اقتحام اسوار مدينة “سوبا” التي صمدت امام الغزاة واستعصمت بالبعد عنهم في جميع الأزمنة القديمة. اما سقوطها فكان احدوثة وصار مضرب مثل شعبي تناقلته الأجيال ليصبح مثل وتشببه مستخدم لوصف أقصى درجات الخراب والدمار لما حاق بها من حرق لأسطول الملك وقواربه الشراعية فكان استسلامها وسقوطها في يد العرب القواسمة أخيرا هو الفتح العظيم.
اصيبت “مملكة علوه المسيحية ” بالضعف بعد ان تخلت عنها “كنيسة الإسكندرية” وكذلك الكنيسة في “اكسوم” في الحبشة مما جعلها لقمة سائغة للأعداء وتربة خصبة للمؤامرات وخلق الفتنة بين رجالات الدول ومتخذي القرارات. وجدت “دوانه” ارملة الأمير “اواندي” ضالتها لتنتقم لزوجها المغدور به بان خلقت الفتنة بين رجالات الدولة بسبب ابنتها البالغة الجمال والتي تصارع عليها رجالات الدولة ليحظى كل منهم بها لجمالها المنقطع النظير، فلعبت “دوانه” على جميع الأطراف بالوعود التي وعدتها لهم شريطة ان يأتيها كل واحد منهم براس الأخر مهرا لزواجه من ابنتها فكانت الفتنة اذا قتل كل منهم الاخر وفي اثناء هذا الانشغال والاغتيالات وجد “عبد الله القرنيان” الذي خطط معها لخلق هذه الفتنة ضالته المنشودة في حقد ارملة الأمير المغدور به ورغبتها في الانتقام لزوجها. انتقمت “دوانه” لزوجها وهربت ومعها ابنتها عند السحر بعد ان مهدت الطريق للعرب القواسمة بالسيطرة على” سوبا ” ولهذا قيل عن هذه المرأة انها ” عجوبه التي خربت سوبا” وشاع كمثل يضرب في اشد أنواع الخراب والدمار.
وقد عكست وبنيت الرواية على فكرة تحالف كل من “عمارة دنقس وعبد الله جماع” بتوحيد جهدهم وأسقطا “سوبا” وذلك بتضافر جهودهما مع (دوانه) ارملة الأمير (اواندي) المقدور به وقد تعرض لأقسى وأبشع أنواع التشهير وهذا ما زاد من حقدها ودفعها لان لا تفوت فرصة الانتقام له.
دبرت الحيلة على ان تدعي “دوانة” للملك ان القواسمة قد عذبوها وظلموها ليتعاطف معها ويوفر لها المأوي والحماية. ومن هذا المدخل لفقت المؤامرات وخلقت الفتنه بين رجالات الدولة وصناع القرار فيها دون ان يحس بها أحد لأنها تنكرت حتى لا تنفضح شخصيتها لتحقق هدفها وقد نجح الكاتب في تصوير مؤامراتها بصورة رائعة. نخر السوس في دواخل مدينة” سوبا” بسبب الصراعات بين رجالات الدولة ومقرري مصيرها مما أدى الى سقوطها وغروب شمسها وصارت مضرب للأمثال: ” خربت خراب سوبا”.
وأكثر ما ميز هذه الرواية أن الحبكة لأي حدث فيها يتسم بالذكاء، التشويق، الغموض ودقه السرد الادبي البلاغي الراقي والفصيح كما وانه ممتع ومشوق. والتشويق كان من خلال التعتيم لكل حدث وهو ما اضفى عليها توابل زادت من الحبكة والسيطرة على شد انتباه القارئ حتى ينبثق الضوء وتتضح الرؤية لنهاية الحدث بصورة جلية.
كذلك ان الرواية مشوقه وفكرة المؤامرة لاختراق اسوار مدينة “سوبا ” كانت ذكيه جدا. حيث استعان الكاتب بالانتقال عبر “انفاس صليحه” ليروي لها ماضيها الذي أوضح كثير من الحقائق التاريخية التي شهدتها بنفسها ورغبت في ان ترويها لحفيدها من خلال هذه الطريقة المختلفة عن الطرق التقليدية في سرد الروايات الأخرى.
ان قصة “انفاس صليحه” بها مزج بين خيال الكاتب واستعارة فكرة الاسراء التي وردة في القران الكريم فاستعاض عن البراق بأنفاس صليحة لتؤدي نفس الدور. والتي مضي فيها الراوي عبر طريق انفاسها كشاهد على العصر الذي يجسده الانتقال الي مكان اخر لأحداث حدثت في الماضي وحضرتها الجدة صليحة عبر أنفاسها فكانت النقلة للماضي وسرد أحداثه التاريخية التي كانت تمثل ماضي الجدة صليحه وتكون الجسر لجناح العبور بين الحاضر والماضي.
طرد العرب من داخل اسوار سوبا وانضموا الي القواسمة المرابطين خارج اسوارها وفي تلك الفترة كان عمارة دنقس في سنار مراقبا للأحداث في سوبا.
اشارت الرواية الى حقائق تاريخيه أخرى منها: طريق رحلة الحجاج من اقصى أعالي شمال افريقيا الذي يمر بمملكة “علوه” للتزود منها بعد ما تلتقي جميع القوافل في أعالي نهر النيجر قبل الوصول الى “سوبا” لإعادة تزودهم وهو الطرق الصحراوي.
كما أشارت الى حقائق تاريخية اخرى مهمه ومنها تجارة الرقيق والتي تمركزت في” تمبكو” التي كانت مركز للمبادلة مع تجار الملح لتتم المقايضة بالذهب.
جمعت الرواية بين الحقائق التاريخية والخيال فكان تسليط الضوء على ان سكان “سوبا” هم خليط من القبائل: النوبة، الفونج، العنج، وقليل من العرب في داخل اسوارها . اختار الكاتب بعض من الأسماء نوبية وأسماء عربية للدلالة على ان سكان المدينة كانوا خليط من هذه الاجناس.
نزح بعض من سكا ن المدينة بعد خرابها الى شرق النيل وبعضهم الى البطانة كما استقرت أيضا بعض من القبائل المغربية هروبا من الطاعون الذي فتك بالقرى هناك وهنا تزوج عبد السميع الذي كان قد التقى جد صليحة وتصادقا في الحج فتزوجا.
سلطت الرواية الضوء على كيفية دخول بعض الطرق الصوفية ومنها الطريقة الشاذلية ومخطوطة ” دلائل الخيرات ” الى السودان من اقصى بلاد شمال افريقيا. كذلك أوضحت الطريق الذي كان يسلكه الحجاج ويمر بالصحراء ومدينة “تمبكتو” ثم مملكة علوه المسيحية.
أرى أن تركيز الكاتب علي أن سكان مملكة علوه كانوا خليط من الاجناس بما فيهم العرب فيه لفت نظر الى مسالة المكون لموضوع “الهوية السودانية” والتي اثارت ومازالت محدثه أزمة في معالجتها وتعريفها. وهناك بعض الكتاب الذين حاولوا التطرق لها ومنهم على سبيل المثال وليس الحصر: د. النور حمد في كتابه: لماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو مارد السهل؟ أما تعريف الهوية بشكل عام وإيجاد تعريف واحد موحد لها وصعوبة الاتفاق عليه قد حاول امين معلوف التطرق له في كتابه:” الهويات القاتلة ” والذي يعد نموذج لهذا المحاولة.
kargwell65@yahoo.co.uk
اضف تعليقا