حفيف المعاول وهي تحفر القبر يهمس لي بأنني السبب في موت صلاح ويتوعدني بنفس المصير. الذين نزلوا داخل اللحد اختفوا عن الأعين يحفرون وأنظر فلا أرى إلا رؤوس (الأجَمَات) والمعاول و(الكواريق) تظهر وتختفي والتراب يطير من داخل اللحد في الهواء ليستقر على جوانب القبر ويؤكد لي موت صلاح. العيلفون كلها اصطفت خلف شيخ الزين إمام مسجد الشيخ ادريس لصلاة الجنازة في ذلك اليوم. ربما اصطفوا ليقدموا التحية لصلاح أو ليعتذروا أنهم لم ينقذوه من النيل. كان في كفنه الأبيض نائماً لم يستيقظ ليقف مع المصلين. وأنا لم أقف معهم ولكنني ذهبت لأنظر داخل القبر. اللحد المحفور فغر فمه وكاد يبتلعني. وحين أجفلتُ همس لي أنه سيأخذ صلاح بدلاً مني حالياً ولكنه لا يطيق الانتظار ليأخذني أيضاً. وسيكون ذلك قريباً جداً. أقرب مما أتصور. وهو الآن مشتاق ليضم صلاح ولو استطاع لزحف نحو الجنازة فأخذها ثم أغلق عليها إلى الأبد. عيون الموتى كانت تخرج من تلك القبور وتحدق فينا من كل مكان، تبحث عني وتتربص بي، وأكفان الأطفال الموتى تطاردني. وتسألني متعجبة كيف لم أمنعه من الذهاب للنيل؟ وأنا الذي ما كنت أعلم أنه سوف يفعلها. ذهب ليلعب مع النيل ولم يكن يدري أن النيل ليس له صديق ولا يحب الأصدقاء. يا أيها الموتى أسألكم بالله هل القبر الذي سيضمه ضمة أبدية أرأف به أم النيل الذي كتم أنفاسه وأخذ روحه وكاد يأخذه ويذهب به عبر البلاد ثم لا يعود؟ اشتهت روحي البائسة أن تتبادل الأمكنة مع روحه المطمئنة ولو قليلاً حتى يسكن رَوْعي ويعود قلبي لمستقره داخل تلك الضلوع. أتمنى أن أُدْفَنَ معه في جوف هذا القبر ولو يوماً واحداً. أرجوك أيها القبر ضمني إليك مع صلاح ثم أغلق أبوابك ولا تفتح لأي طارق أبداً.
شيخ الزين رفع يديه وكبر التكبيرة الأولى لصلاة الجنازة وأنا ركضت وتمددت جوار صلاح على النعش. شيخ الزين نظر إلينا ولم يقطع صلاته. رأيت دمعتين تستبقان على خديه لما رآني ممدداً بجوار الجنازة. نظر إلى الأرض وأكمل. الدمعتان تحدرتا فوق لحيته وتسربتا إلى ذقنه وعنقه وتغير صوته فأصبح مثل أنين المصاب بالحمى حين نطق التكبيرات الثلاث الباقية. والتكبيرات خرجت من جوفه وليس من لسانه. نطقها ولكن بفؤاده والمصلون خلفه رددوها بأفئدتهم التي أخذت تختلج وتهتز. عم حسن كان واقفاً مصطفاً خلف الإمام. نظر إلى جنازة صلاح والناس يصلون عليها. ضربته صاعقة الحزن وذاق جسده رجفة المذبوح. دموعه لم تطق انتظار التكبيرات كلها. ما الذي يجعلها تنتظر؟ وبعضهم قطع الصلاة وأسرع نحوي ليبعدني من الجنازة وأنا تشبثت بها حتى كدت أنزع الكفن من جسد صلاح. وأبعدوني رغماً عني. البصير كان قوياً فحملني بين يديه ورغم أنني عضضته حتى سال الدم من يده إلا أنه لم يتركني وأبعدني عن الجنازة. القبر قوَّسَ ظهره الترابي فوق صلاح كأنه يغار عليه ويخشى أن نحفر فنستعيده. والريح شاركت العيلفون البكاء تحت شجرة السيال وقمرية ناحت قليلاً على الغصن وخنقتها عبرة الحزن فأخرستها، ثم حلقت فوقنا وصفقت بجناحيها ولطمت وهي تغادر المكان، ربما لتبكي حيث لا يسمعها أحد. النساء لا يخرجن مع الجنازة في قريتنا وأمي لم تكن معنا ولم تر ما فعله عم حسن. حين تلفت باحثاً بالغريزة عن ابنه صلاح ليضمه فلم يجده جاء فحملني بين يديه وضمني بقوة. ذراعاه القويتان أوجعتاني لكن دموعه على وجهي وعنقي أوجعتني أكثر وفَطَرَت فؤادي. تلك الدموع بقيت الدهر كله تؤرقني وتفري كبدي. كان صلاح هو وحيده الذي أنجبه عند الكبر. ولكن صلاح ذهب مسرعاً. وعم حسن بحث عن ابنه ليضمه بين ذراعيه وحين لم يجده بكى عليه بصوته العميق المفجوع الممتليء حزناً حتى فقد بصره. رأيته بعد ذلك يمشي ويتخبط في الطرقات على غير هدى وهو يستكشف ما أمامه بعكازته يحركها يميناً وشمالاً حين يسير. كانت طرقات عكازته على الأرض تقول لي أنت السبب! أنت السبب.! أنت فجعتني في ولدي.. كنت إذا رأيت عم حسن يسير في الطريق أفر هارباً وتضطرم أوصالي خوفاً وندماً وأبحث عن البكاء ليريحني فلا أجده.
اضف تعليقا