تمهيد
- قبل انبلاج فجر الربيع العربي ونشوء الثورات العربية بزمان بعيد ، وبالتحديد في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ، نشأ ما عُرف في مصطلح أهل العلوم السياسية بالنظام السياسي العالمي ، رسم حدوده ، وعين معالمه المنتصرون في تلك الحرب ، الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي والحلفاء . وقامت المنظمات التي تحرس تلك الحدود، الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمحاكم الدولية ، والبنك الدولي وصندوق النقد وما إليه ومنظومة من الإتفاقات الدولية ، ولم يكن هنالك من خيار أمام الدول الأخرى إلاّ القبول بواقع ذلك النظام العالمي .
- وبعد نحو من أربعة عقود على تأسيس النظام العالمي المذكور، وقعت ثلاث تطورات كبرى، إنهارت إمبراطورية الإتحاد السوفيتي وتشظت، وتداعى الأوربيون إلى وحدة إقتصادية متدرجةيأملون أن تنتهي في المستقبل إلى وحدة سياسية، وتحولت الصين الشيوعية طواعية إلى إقتصاد السوق. وبفضل تلك التطورات إنهار نظام القطبين، وانفردت الولايات المتحدة بقيادة العالم، لتفرز هيمنتها على العالم بأطر إقتصادية وثقافية إضافية، بل وسعت الولايات المتحدة – لبرهة – للسيطرة الكاملة على قطاع الطاقة إنتاجاً وتوزيعاً، مسعى لم يكلل بالنجاح، ودفعت ثمنه المنطقة العربية والإسلامية ( ) ودماراً.
- وبينما ثورات الربيع العربي تنتظم العالم العربي وتطيح بالأنظمة ، كان هنالك تغيير آخر أكثر جذرية وأبعد أثراً على العالم بأسره ، يسير بخطىً متزنة وثابتة ، حتى انبلج في ذات عام الربيع العربي ، ألا وهو صعود الصين المتئد لتسنم قيادة العالم إقتصاديا فى هذه المرحلة ، من الولايات المتحدة وحلفائها ، الدول المهيمنة والأعمق تأثيراً على العالم منذ نهاية الحرب العالمية .
- وإذا كان الاقتصاد هو مفتاح القوى العسكرية ، وهما معاً أهم أدوات النفوذ السياسي في عالمنا المعاصر ، فإن الصين أصبحت تنفق أموالاً طائلة من مدخولاتها على تطوير قدراتها العسكرية ، الأمر الذي سيُفضى إلى تأكيد مكانتها كدولة أُولى بلا منازع ، فلا عجب أن أزعج الإنفاق العسكري المتزايد للصين الدول الكبري المهيمنة خاصة دول الغرب .
- والنظر الموضوعى المتأني يهدي لحقيقة أنه فى ظل تفوق الأداء الإقتصادى الصينى البائن ، فإن قيادة العالم سياسيا ستنتهى لا محالة الى الصين ، وحلفائها .
- والتحليل الموضوعي أيضاً يقول بأن قواعد اللعبة في النظام السياسي العالمي السائد ..( عندما رسمت معالم النظام العالمي لم تكن الصين شريكاً بعد ) ، تلك القواعد لا بُد أن تتغير لتستوعب المعطيات الجديدة والأوزان الحقيقة للقوى العالمية الصاعدة . المثال الأشهر لذلك مجلس الأمن : لماذا يحق لدول مثل فرنسا وبريطانيا أن يكون لهما حق الإعتراض في مجلس الأمن سواء بسواء مع الصين بصوت واحد لكلٍّ ؟ وهى دول من ناحية القوى الإقتصادية وربما العسكرية متخلفة عن دول مثل الهند ، والبرازيل وماليزيا ، ناهيك عن دول أخري مثل ألمانيا وأستراليا ؟
- والصين الآن قد أنجزت الشوط الأعظم في ميادين تقنية المعلومات والإتصالات والشبكات ونظيراتها من البرامج ، وأصبح لها إنتاجها الخاص والمحلي ، ثم هى الآن تزحف خارج أسوارها بمنتجات عالية الجودة ، تريد أن تُحِلَّها محل نظيراتها من المنتجات الغربية ، والتي تُسَوَّق في إطار كثيف من الإلتزامات والعقود المفروضة على المشتري ، وتخضع للرقابة المركزية في الغرب مثل شبكات الإتصال العنكبوتية ومشتقاتها . والصين إذ تفعل ذلك فهى تريد أن تحمي مجتمعها واقتصادها ونظام حكمها وقيمها من التأثيرات الغربية ، وفي نفس الوقت تقدم البدائل للتقنية الغربية لكل راغب ، والمجتمعات العربية أشدَ المجتماعات حاجة أن تحذو حذو الصين وأن تمتلك إنتاجها الخاص من نظم المعلومات والإتصالات ، كيما تتحرر من إسار الغرب المتحكم .
- وإن كان ثمة مجال يكاد لايزال يخضع للسيطرة الغربية فإنما هو مجال المصارف والبنوك والتأمين والمقاصة ، فما زالت أقوى المصارف ذات التصنيف الأعلي هي المصارف الأروبية الكبرى ، وما فتئت العمليات التجارية تمر عبر بواباتها ، وودائع الأفراد والدول مكدسة بها ، والمقاصات تنجز عندها وبها ، وهذه ميزة عظمى للغرب تُخَوِّلُه رقابة لصيقة على النشاط الإقتصادى ، وعلى ثروات الأمم بصفة خاصة ، وتمنحه بفضل الإيداعات الضخمة ميزات نسبية كبرى في الأسواق ، فضلاً عن إمكانية توظيف تلك الودائع بحسب أولوياتها السياسية متى ما شاءت.. مثال لذلك تجميد أرصدة الكويت عند حرب الخليج العربي ، وتجميد الأرصدة التونسية المصرية الليبية إبان مفتتح الربيع العربي ، وخنق مدفوعات العمل الخيري بدعوى مكافحة الإرهاب في العالم الإسلامي .
وليس ثمة مناص من تغيير هذا الأنموذج أو تعديله أو إستبداله بمنظومة جديدة تخضع لأصحابه في المقام الأول لأصحاب الودائع والمال وليس للغربيين الذين كانوا وكلاء علي ودائع الشعوب فنصبوا أنفسهم أولياء عليها. وهل من العسير أن تنشأ مقاصة خاصة بالعالم العربي والإسلامي تنجز عندها المعاملات التجارية دون توسيط المصارف الغربية ؟
- وبإزاء حتمية التحول فى قيادة العالم الجديد إلى الصين ، فإنه يثور فى الأذهان تساؤل حول مصائر التحالفات السائدة في المنطقة العربية والإسلامية ، وهي تحالفات تدور وتتمحور حول الدول المهيمنة اليوم بصفة خاصة الولايات المتحدة الأمريكية ، أوليس الأجدى والأعقل والأحكم وربما الأقل تكلفة أن يعاد ترتيب التحالفات للدخول في أو التنسيق مع المحور الصينى الصاعد وإعادة كتابة النظام العالمي القديم ، بمشاركة الدول التي فاتها شرف المشاركة في صياغة النظام الحالي ، والتي لم تسأل رأيها أصلا ، وتغيير تركيبة علاقاته الدولية ومنظماته وقوانينه على أسس جديدة تعكس الأوزان الحقيقة الراهنة لهذه الدول ، لا الأوزان التأريخية لدول ما بعد الحرب العالمية الثانية .
قضايا الإنتقال
والانتقال من النظام العالمي السائد نحو نظام جديد يقتضي تحضيراً جاداً وإعداداً رصيناً ، فالتحول المطلوب خطير ومقتضياته معقدة ، ونتائجه إن كتب له النجاح هائلة . فمن القضايا التي تستلزم المعالجة على مستوى العالم العربي والإسلامي:
- قضايا إعادة ترتيب البيت العربي الإسلامي ، وتدخل فيها مسائل استكمال التغيير السياسي في البلدان التي ما زالت عصية علي التغيير ، وترسيخ القيم الجديدة ، واستنباط أشكال التعبير العملي عن تلك القيم ، ويدخل في إعادة ترتيب البيت موضوع حل النزاعات في الدول العربية وفيما بينها ، تلك النزاعات التي تستنزف الوقت والجهد والموارد ، بلا طائل يرتجى .
- قضايا تحرير الموارد الإقتصادية : النفطية ، والمعدنية والزراعية لدول العالم العربي والإسلامي والسيطرة عليها وإدارتها لمصلحة تلك الدول واستنباط الآليات والأدوات لإنفاذ الخطط لتحقيق ذلك الهدف.
- قضايا الوحدة والتكامل بين تلك الدول ، وهي متنوعة وشتى ، فمن ذلك الأشكال الموجودة ، منظمة الوحدة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي ، ومنظمة التعاون الخليجي ، وغيرها . وقد يقتضي الأمر إنشاء منظومات جديدة أو تعديل وظائف المنظومات الموجودة .
- ومن ذلك قضية بناء التحالفات الجديدة الضرورية للانتقال إلى النظام العالمي الجديد ، وتعيين واستقطاب أعضاء هذه التحالفات .
- ثم هناك مسألة حماية التحالفات الجديدة ، وتفادي الصراع والنزاع المبكر قبل نضوج التحول ، وهي مسألة في غاية الأهمية لأن الإنتقال من نظام عالمي متمكن إلى نظام جديد يهدد مصالح دول النظام القديم وقد يفضي إلى العنف والحروب .
- ولن يتم الإنتقال المنشود ويكتمل إلا في إطار منظومة قيمية ومرجعية فكرية مستقلة وأصيلة تهدي التحول والتغيير، وتنشأ منها الأهداف والنظم والنماذج التطبيقية والسياسات والبرامج ، وتكون بديلاً للمنظومات القيمية السائدة والمرجعيات الفكرية المتحكمة.
وإنما هذه عناوين عريضة يقتضي تفصيلها وتنزيلها علي الواقع خططاً وبرامج كثيرة ، وإرادة فوق ذلك حرة ومستقلة .
اضف تعليقا