رواية أنفاس صليحة للأديب السوداني عمر فضل الله، صادرة عن دار البشير، اشتغال فني رائع على التاريخ والجغرافيا وحركة الأعراق في السودان وبالخصوص في مملكة علوة، اشتغال على ساعة صعود الجنس العربي في تلك المنطقة في القرن الخامس عشر الميلادي، واحتضار الهوية المسيحية، وملابسات هذا الاحتضار، واكتساب السودان لشخصية جديدة بها حضور واضح للدين الإسلامي وللدم العربي، وصياغة فنية للتماوج والتدافع، والتسامح، والأحقاد، والتخريب، والقدرة الإنسانية على التعامل مع الهزائم الحاصدة والموت الجماعي.
العمل ناضج لدرجة تجعله في مصاف أدب الرحلة الروحية التي تغيِّر الإنسان، مثل الخيميائي لباولو كويلو، والحج إلى الينابيع للا نزا ديل فاستو، وقد كان الأديب حذرًا في أن لا يقدم نفسه كصاحب فلسفة، أو أديب فيلسوف، بل اشتغل بحب على مادته، بما يليق ببساطة الشخصيات التي تتحرك في جنبات الرواية؛ وإن كانت التقنية التي استخدمها، لانتقال السرد من الجدة لغيرها، ومنهم الحفيد، وهي على وعي لامتلاكها هذه القدرة الروحية الغريبة التي تجعلها تنقل الآخرين إلى معاينة مسارات من حياتها المدهشة الشاقة، هي تقنية لم تكن مستساغة بالنسبة لي، وتفقد السرد براءته الضرورية.
أثني كثيرًا على امتلاء الأديب من ناحية الوصف، وخصوبته في التعبير عن الحياة البرية بما فيها من نباتات وحيوانات، وخصوبته في التعبير عن الأزياء والعادات، وعلمه بالأمم والأجناس والقبائل في السودان والغرب منها، بحيث أخذ القارئ معه إلى هذه العوالم القديمة وتلك البقع الحيوية المثيرة خلف الكثبان الرملية. كان مدهشًا هنا وممتلئًا ونابضًا بحرارة السرد، ومأخوذًا بما يحكي.
وأثني كذلك على صبره وذكائه في التعامل مع التاريخ، الذي سمح له بنسج نسيجه بغير اندفاع وشطط، وبقدر من البراءة الذكية التي يجب أن يتحلى بها رجل ينحاز إلى القصة عندما يشتغل على مادة تاريخية، وبخاصة إذا كانت المادة التاريخية سائلة نوعًا ما، وتخص حقبة ثرية مبهمة شكَّلت في الدين واللغة والعادات والملامح.
وأثني بالطبع على اللغة الجميلة، ولغة الحوار التي كان لا يعوزه فيها امتلاك مفردات حياتية كثيرة تخص هؤلاء الناس؛ وإن كنت أعيب عليه في بعض الحوارات وضع كلمات مثل: التحولات، يشكل خطرًا، السلطة، على لسان امرأة مهما كانت أميرة سابقة، فهي كلمات ليست بنت ذلك العصر.
أما الأميرة دوانة، والتي تحولت إلى كائن مخيف يعيش عند ساقية الشيطان، حيث لا يجرؤ أحد على الاقتراب، والتي حلقت شعرها وشوهت وجهها بالنصل، كي تذهب في رحلتها للانتقام ممن قتلوا زوجها الأمير، فكانت ضربته الفنية الرائعة، وأضافت ثقلًا كبيرًا للقصة كلها، وصبغتها بتلك الصبغة التي يوفرها في الملاحم الإنسانية وجود شخص صاحب إرادة مذهلة، وأحقاده أقوى من أن يتحملها جسده.
محمود توفيق
اضف تعليقا