أثارت رواية د/عمر أحمد فضل الله الأُولى الكثير مِن النِقاش استَدْعيت معه كُل ما لَفَت انتباهنا ونحن لا نزال صِغاراً في أقصى شمال السودان في دِيار أهلنا المحس و”الحلفاوِيين” و “الدناقلة” فهي كانت وبِحُكم الموقع الجغرافي النافِذة التي ولجت من خلالها الثقافات والمعارِف والمُعتَقدات الدِينية، مِن جُملة ما جرى مُشاهَدته ومُعايشته ومُمارسته مِن طُقوس وعادات لا تمت للإسلام بصِلة بل ترتَبِط ارتِباطاً وًثِيقاً بالثقافة المَسِيحية، والتي ربما كانت نَتِيجةً لما تـمَّ توارُثه مِن الأجيال السابِقة بحُكم التَعوُّد واستمرت بعد الفتح الإسلامي ، وبرغم أنَّ الكثير منها قد بدأ في الاندِثار إلـّا أنّه لا تزال هناك بَقايا مِنها، والغرِيب أنّ اندثارها لم يكن بفعل العمل الدعَوِي على الرغم مِن ” خلاوِي ” القرآن الكريم العريقة وجماعات الطُرق الصُوفِيّة الضارِبة في القِدم إنما كانت بِفعل تطوُّر اللُغـة النُوبِية المحلِية”الرُطانة”، فالرُطانة السائدة حالِياً بالمُنطِقة تَغْلُب عليها العَدِيد من المُفردات العربية حتى أنّك قد تَجِد البعض مِن الجِيل الحالي لا يفهم الكثير مِن المُفردات النوبية القدِيمة. وكمِثال لتلك الطُقوس والمُمارسات النصرانِية شَكل بوابات البيوت النُوبِية القدِيمة الرئيسية حيث كان يتم تَثْبِيت عدد ثلاث أطباق دائرية في شكل مثلث مُتساوِي الأضلاع كان يتم نَهْينا بِشدَّة ونحن صِغار أن نعبث بها تحطِيماً أثناء اللعب الأمـر الذي كان له أنْ يُرَسِّخ في أذهاننا نحن الصِغار شيئاً مِن القَداسة ولاحِقاً أثناء زيارة بعض الغربيين النَصاري عرفنا مِنهم أنّه أثرٌ نصرانِي قديم (الثالوث المُقدَّس)، الأب الإبن ، الروح القُدس..! وأيضاً لا يفوتني هنا الإشارة لتلك الجملة التي لا تزال تطرق مَسامعي مِن بعض كِبار السن عند عِيادَتهم للمرضى إذ يقولون: (( مــاريا مِــير)) أي ترعاك ماريا”السيِّدة العذراء مريم”! ويرادفها بذات اللُغة قولهم : ((نُـور إيكّا مـِير)) أي يرعاك الله ويحفظك فالأصل في “الرُطانة”أنّ الاسم يسبق الفعل على الدوام في جميع الجُمل… لكن أكثر ما كان يدهشنا ونحن في غمـرة طقوس الزواج الاحتفالِية أنّ “العريس” ومَن معه يتوجَّهون صوب النِيل وفي يدِه السيف و سوط “العَنج” فيقوم بِضرب صفحة الماء بالسيف مِن أعلى لأسفل ومن اليمين لليسار على شَكل صليب! بالطبع دُون أن يدرِي هو أو نحن أو هم مُبرِرات وكُنه ما يفعل.. لعل ما سَبق يقودنا للسؤال الأهم الكبير وهو حين قدِم العرب المسلمون وقاموا بنشر الإسلام هل وقَفت اللغة حاجِزاً بينهم وبين تأصِيل الثقافات والمَعارِف الإسلامِيّة فلم يستطِيعوا القضاء على تلك العادات والتقالِيد والطُقوس المسيحية القَدِيمة المُتوارَثة أم أنَّ اهتِمامهم المعروف بحب الترجمة انصبَّ على معرِفة وإتقان اللغة النُوبِية المحلِية. الثابت لدي أنّ تطوُّر اللُغة النُوبِيّة المَحليّة كان له الأثر البالِغ في القضاء أو التَخْفِيف مِن تلك العادات والمُمارسات القدِيمة. ومِمّا يُثِير الاستِغراب حَقاً كَثرة مُخلّفات العُصور المَسيحِية مِن آثار على حِساب مُخلفات المسلِمين العرب في السودان باستثناء مسجد دنقلا العجُوز
انظر تعقيب د. عمر فضل الله على المقال بعنوان: وقفة عند إيماءة ياسر خيري على نص الترجمان
اضف تعليقا