فكرت في أحيان كثيرة أن ألقي بنفسي في الماء لأكون مع صلاح وأرى كيف هي حاله الآن ولكنني جبنت ولم أستطع. كنت أعلم أنني سأغرق وأموت. ففي وقت الدميرة الكل يغرق. ورغم ذلك بقيت أذهب كل يوم ولم أتوقف عن الذهاب للنيل وأبقى هناك حتى بعد أن ضبطني عم «حميد» الحواتي جالساً عند الضفة. عم «حميد» جاء يمشي على الرمال ولم أسمع صوت أقدامه. فاجأني وأمسك بي ولم أقاوم وبقيت صامتاً. ربط يدي خلف ظهري كى لا أقاوم وقيدني من قدمي إلى شجرة السيال الشامخة عند ضفة النيل حتى لا أهرب منه. تناول غصناً فقطعه وصنع منه سوطاً. نظراتي إليه كانت شيئاً يشبه نظرات عنزنا الحلوب (مبيريكة) التي ذبحها أبي للضيوف ونحن صغار. (مبيريكة) كانت تعرف أنه سيذبحها ولكنها رغم ذلك وقفت ولم تهرب وكانت تنظر في عينيه وهو يمر السكين ليقطع أوداجها ويسيل دمها. وأنا أيضاً قررت ألا أهرب فهي ليست أشجع مني. ضربني عم «حميد» وضربني حتى تعب وتقطع السوط في يده. وتمزقت ملابسي وظهرت الآثار السوداء على ظهري ومؤخرتي وتورمت رجلاي. كنت أئن من ألم الضرب ولكنني ما صحت ولا بكيت والأنين خرج من فمي رغماً عني ولو كنت أملك أن أكتمه لكتمته. عم«حميد» فاجأته صلابتي فتوقف عن الضرب وفك قيودي وأطلقني. لا بد أنه أصيب بالخذلان فقد توقع أن أبكي وأتوسل ليتوقف عن ضربي، ولكنني لم أفعل. مشيت متجلداً في كبرياء ناظراً إلى الأعلى رافعاً رأسي ولم ألتفت للوراء لأنظر إليه. عم«حميد» ضربني انتقاماً لكرامته المهدرة أو للمجهود الذي بذله حين كان يبحث عني عبثاً تحت الماء. ربما أصيب بالحرج لأنني جعلت منه أحمقاً كبيراً أو لأنني عرضته لخطر الغوص تحت الماء بحثاً عني في حين كان من الممكن أن أخرج من مخبئي وأخبرهم أنني حي وأنني لم أغرق.. ولكن لا أظن أن هذا هو السبب فع
م «حميد» قد أخرج جثة صلاح على أي حال. وكانوا سيكتشفون عاجلاً أو آجلاً أن صلاح قد غرق حتى لو كنت خرجت من مخبئي وأخبرتهم. عم «حميد» لا يتقبل النقد بصدر رحب. وربما لو لم يكن عم «الجيلي» هو الذي انتقده في ذلك اليوم حين كان يغوص تحت الماء لخرج وتشاجر. ولكن عم «الجيلي» كان كريماً وكانت له يد بيضاء على عم «حميد» فقد سمعت أمي تحكي أنها رأت عم «الجيلي» – وهو جارنا- في مرات كثيرة يعطي عم «حميد» النقود في الخفاء. ثم قالت: (أكرم الفم تستحي العين!). تذكرت أن عم «حميد» تزوج مرات عديدة ولم ينجب وأنفق ماله كله على الزواج والعلاج. كان غاضباً من كل أحد وحتى من نفسه. تخيلت الآن لماذا ضربني عم «حميد». وأحسست بارتياح عميق ونسيت الأمر.
وصلت البيت ودخلت خلسة ولم أخبر أحداً. أبي كان مسافراً وأمي اكتشفت آثار الضرب بعد يومين فقد كنت حريصاً ألا تراني. وحين سألتني لم أرد عليها فأشفقت عليَّ وبقيت صامتة. كانت تظن أن العم حسن زوج بتول بنت ست الدور ووالد صلاح هو الذي ضربني. وأنا لم أخبرها ولم أخبر أحداً أن عم «حميد» هو الذي فعلها. كنت أشفق عليه رغم أنني أنا الذي كنت الضحية وكان هو الجلاد فقد كان في داخلي إحساس غامر بأنني انتصرت عليه وهزمته وأنه عاد إلى البيت منكسراً.
اضف تعليقا