كل مهموم بوطنه عليه أن يقرأ (ترجمان الملك) لعمر فضل الله
كما يقال دوما إن الحضارات تنمو وتزدهر علي ضفاف الأنهار .. أما نيلنا وأرضنا الخضراء مهد السنا فلم تكن أرض حضارات وحسب وإنما كانت تحولات في تاريخ البشرية والإنسانية كما تشير إلى ذلك رواية ترجمان الملك، إذ يستهل الكاتب روايته بنص استراتيجي بأن الرسول الكريم في دبلوماسيته ونظرته البعيدة اختار أن يؤمن ظهره إلى أن يستقر الحال بالدين الجديد، فقد كانت سوبا وعلوة أرض خير وفير وقوة كبيرة، فجنودها العنوج وإبلها البجاوية مصدر خطر .. ذات الإبل البجاوية والعنوج في عصور لاحقة صنعت لبلادنا مجداً تغني به أهل الإمبراطورية التي لم تكن تغرب عنها الشمس (الفزي وزي fuzzy wuzzy ). فما كان لدى علوة من عز وسلطان لم يكن لدي بلاد العرب الذين كانوا يأتون مهاجرين. وكما أورد الكاتب في المقدمة أن كل ذلك كان من الدبلوماسية السلمية .. عندما قدم المهاجرون بدينهم من بطش أهلهم مكثوا وسط الناس فكسبوا عقولهم وقلوبهم (They won their hearts & minds) بحسن خلقهم وكما كان يقول أهل هذه البلاد إن القادمين على غير المعتاد ليسوا مثل من يأتون عادة للتجارة فأؤلئك كانوا أفظاظ وعندما يتأمل القاريء ويربط بين حديث المؤلف والراوي فكأنما فعلاً قد تم انتقاء هؤلاء المهاجرين لرسالةٍ ما.. كان لابد أن تصل السيدة التي تزوجها النبي من أرض علوة والتي سافرت بكامل عدتها وعزوتها وخدمها وحشمها وكان قد خطبها له النجاشي ودفع مهرها “يعني بالأصول” .. ربما ارتأى النجاشي أن في ذلك التحول خيراً له ولبلاده لذلك لم يمانع في أن يتزوج النبي من المهاجرين الذين في كنفه والذين هم من رعاياه وربما فكر النجاشي في أنه للمستقبل هذا الجوار الجديد وسيلة ما للافتكاك من النفوذ اليهودي/الروماني الذي كان يخنق بلاده ويهدد ملكه..
كتب مسرحي بحريني موخراً عن عشقه لبلاد السودان فذكر أن أباسفيان لو كان قد توجه إلى بلاد (السودان) بدلاً من بلاد (البيضان) لازددنا رسوخاً وأصالة، تماماً مثل إنسان السودان ..
شخصية الجد (دلمار) المستنير المتنور العارف المترقب المتواضع هي شخصية كل رجل سوداني يمشي علي قدمين. وطريقة نقل العلم الى حفيده (سيسي) ما زالت مثلما يحدث عندنا.. وكما قال الأديب الراحل الطيب صالح: “نحن قوم أنبياء”..
عندما صلى العرب في بيت (تانيشا) لم تكن ممارسه غريبة على أهل علوة فقد قالوا هكذا كان يصلي المسيح عليه السلام.. مجتمع سوبا أثقلته خطيئة الرق والاسترقاق والتي كانت تتم بإشراف الكنيسة وتهدد سلطان الملك والمجتمع. فأسرة سيسي كذلك كانت أحد ضحايا تلك التجارة البغيضة.
موخراً كتبت السيدة (فيرجس) الباحثة عن عهود تجارة الرقيق كتبت تقول إنه قد تم استرقاق ثلاثين مليون مواطن إفريقي وتم بيعهم في أوروبا وأميريكا ليبنوا ويعمروا للبيض مدنهم هناك وكان ذلك بموجب قانون وضعته الكنيسة .. كان ملك علوة قوياً ذا سلطان لكن القوى الروحانية الأعلى كانت تأتي من الكنيسة في الإسكندرية إذ كان ولاء الوزراء للسلطة الكنسية أكبر من ولائهم للملك. يقول فيكتور هوغو (إن العلاقة بين الملك ووزرائه مثل العلاقة بين الزوح وزوجته وعشيقاته، فالزوجة لا تعلم شيئاً أبداً..) مشهد النساء العربيات ومجالسهن يحكي كيف أن الاندماج والتوحد قد حدث بكل إخاء ومحبة بين أؤلئك المهاجرين ومجتمع سوبا فهم قوم التقوا وتحابوا في الله وهكذا فعلاً دخل الإسلام السودان.. مجلس النساء منذ ذلك الزمان ومشهده في الرواية ما زلنا نراه في مجالس أمهاتنا وجداتنا (حبوباتنا) ففي ترجمان الملك كانت النساء العربيات يملن إلى الجلوس والحديث بينما واقع نساء سوبا وعلوة يختلف قليلاً إذ كانت النساء دوماً مشغولات.. ومجالس نسائنا اليوم وغداً تجمع بين هذا وذاك ففريق منهن ينصرف لتقاسم العمل وفريق آخر يجلس ليسامر ويتآنس ويحكي.. الرواية تحكي عن زينة النساء السودانيات في ذلك الزمان القديم (Sudanese ladies toilet) والذي بقي كما هو منذ ذلك الزمان وربما منذ زمان أقدم لم يتغير.. وذكر (التواليت) النسائي هو إشارة الى مستوى الرقي والحضارة التي كان يتمتع بها القوم وما زالت ذات الطقوس سارية كما يقول الفرنجة (nous sommes un pays à l’etat brut) (نحن كما نحن لم نتغير).. بلادنا كانت دوماً تأكلها الدسائس ويقع أهلها في الشرك.. مشهد المهددين لعلوة والذين كانوا يتجمعون لمحاربتها تكرر مراراً وتكراراً حتى في زماننا الحديث هذا وما زلنا نعيش تبعاته.. كان اليهود في انتظار ظهور النبي الحديد كما أخبرتهم التوراة وكانوا يتحسبون لذلك ولم يكونوا يعرفون في أي البلاد سيظهر فقد كانت هناك إشارات عامة ومبهمة للمنطقة التي سيظهر فيها لذا توزعوا ما بين اليمن والجزيرة العربية وأرض علوة والحبشة وفي داخل علوة نصبوا سمومهم فالساحرة الشريرة (سيمونة) هي نفس المشهد يتكرر في زماننا هذا ولو في صور وأشكال مختلفة. وبعدما ظهر الدين في بلاد العرب وعرفت الوجهة بدأوا في سحب الثروة وتجريد علوة مما لديها وما زال هذا يحدث..
شجرة الحب بين (أبيلو) و(تانيشا) كأنما هي الشجرة التي أظلت سيدنا آدم وأمنا حواء عندما نزلا إلى الأرض.. وربما سوبا أو علوة هي حقاً أرض اللقاء فسوبا بكل تفاصيلها تشبه أرض اللقاء..
الرواية حدثت عن مشهدى حب بين (سيسي وسنجاتا) و (أبيلو وتانيشا) بعد عودة الغائب..
د. إيمان شريف – المملكة المتحدة
اضف تعليقا