حدث ذلك وأنا طالب في المرحلة المتوسطة. فحين كنا صغاراً ما كان أهلنا في القديم يتحرجون في إرسالنا للسوق لشراء اللحم والخضار أو للبقالة لشراء الملح أو الزيت والسكر أو كلما احتاجت أمي لشيء ما يلزمها في عملها كل يوم عند صنع الطعام أو عمل القهوة. ورغم أنني كنت أذهب متذمراً من تلك المراسيل في كل مرة لكونها تحرمني اللعب إلا إن كانت وراءها منفعة من أكل ونحوه أو بعض قروش مما يبقى من قيمة المرسال إلا أن هناك مرسالاً خاصاً كنت أنشط له جداً بل وأترقبه كل أسبوع وأفرح حين يأتي رغم أنني لم أكن أنتظر من ورائه عائداً مادياً. هذا المرسال كان هو مرسال القراءة كل يوم جمعة حين يدعوني أخي الأكبر علي أحمد فضل الله وفي يده كتاب أو رواية يتبادلها مع ثلاثي القراءة المشهور في العيلفون في ذلك الزمان: الأديب القاص الراحل أبوبكر خالد مضوي والأستاذ هشام إدريس الخليفة والأستاذ النور أو مصطفى أحمد المكاوي. كنت أنشط لهذا الأمر لأنني كنت أعلم أن فرصتي الوحيدة للمس وحمل تلك الكتب التي لم أكن أحلم باقتنائها أبداً هي حين أحملها من بيتنا إلى بيت الأديب القاص الأستاذ أبي بكر خالد في الحي الأمامي وقد كان رحمه الله يقيم في نفس بيت صهره القاضي عبد الرحيم صباحي. كان أخي يعطيني الكتاب لأذهب به إلى بيت أبي بكر خالد وأعود بكتاب آخر وذلك على طريقة التبادل بينهما وأحياناً أخرج بكتابين لأمر في طريقي على هشام الخليفة لأعطيه أحد الكتابين وآخذ منه آخر إلى بيت أبي بكر وبذلك تتاح لي الفرصة مضاعفة لاختيار أحد الكتابين وتصفحه في الطريق ولو أعجبني فإنني أجلس في ظل أحد البيوت لأقرأ ذلك الكتاب أو تلك الرواية. بهذه الطريقة كنت أقرأ الكثير من قصص وروايات إحسان عبد القدوس المنشورة كتباً أو المضمنة في مجلة روز اليوسف. ولأن القصة تكون طويلة أحياناً فإنني كنت أتصفح الكتاب أو أمر مروراً سريعاً على أحداث القصة فأقرأ سطوراً هنا وسطوراً هناك. ارتبطت روايات وأعمال الأديب إحسان عبد القدوس وكذلك مؤلفات الأديب نجيب محفوظ عندي بمعالم معينة في القرية فلا زلت أذكر أين قرأت رادوبيس أو زقاق المدق (قرأتها بين دكان ود البر وزقاق إدريس الخليفة) واين قرأت السراب أو تصفحت بين القصرين أو قصر الشوق أو السكرية ولا زالت اللص والكلاب تذكرني بكلب العم عبد الكريم الأمين في القرية حين أمر من بيتنا إلى بيت العم عبد الرحيم صباحي على طريق عبد الكريم الأمين. أستطيع أن أقول إنني قرأت السمان والخريف كاملة في الطريق لكنني تصفحت ثرثرة فوق النيل وميرامار وأولاد حارتنا ثم لم أتمكن من قراءتها بعد ذلك كاملة إلا بعد أن أصبحت طالباً في الثانوية العامة. ولهذا فلما أعدت قراءة هذه القصص والروايات ذقت لها طعماً خاصاً لأنها ارتبطت عندي بذاكرة التاريخ القديم في القرية وبالأماكن والطرقات. قرأت تلك الروايات والقصص متلصصاً وخائفاً أن يضبطني أخي الأكبر أو يعثر علَّى أحدهم في الطريق جالساً منهمكاً في القراءة. وأظن أن الأستاذ أبوبكر خالد قد لاحظ أنني أقرأ تلك الكتب أو أتصفحها لأنه كان دقيق الملاحظة وكان واضحاً أن تلك الكتب تصل إليه متربة متسخة وبصمات أصابعي مطبوعة في كل صفحة من صفحاتها لكنه كان ذا أدب جم فتجاهل ذلك ولم يسألني يوماً عن السبب. لست أدري هل يصح أن أطلق عليه أدب الشوارع أم لا لكنني فتحت عيني على قراءة الأدب في الشوارع.
عمر فضل الله
اضف تعليقا