بقلم عمر فضل الله
تضافرت الجغرافيا والتاريخ على تشكيل حضارة ذات ملامح ثقافية وعرقية متشابهة في وادي النيل امتدت لأعماق التاريخ القديم فقد نشأت الحضارات في المنطقة منذ آلاف السنين وقبل أن تعرف الدول والحدود فقد كشفت البحوث والحفريات أن الحضارة نشأت وازدهرت في جنوب وادي النيل، وعلى الأخص في حوضه الأوسط ثم تمددت شمالاً وجنوباً. وأنها ليست محض امتداد للحضارات في شمال الوادي، كما كان الظن سابقاً.
أثبت التاريخ أنه كلما حاق الضعف والإنحلال بمصر، تقهقرت الأسر المالكة، والأمراء والكهنة، يطلبون الملاذ في جنوب الوادي. كما سجل التاريخ ملاحم خالدة، هبت فيها ممالك من جنوب الوادي، إلى الشمال تطرد الغزاة والمحتلين من شمال الوادي، وتنشر القوة والبعث والإزدهار وتعيد الأمن والنظام. ونقرأ في دهشة تلك اللوحة المقدسة في جبل البركل المقدس في ذلك الزمان القديم، والتي يحذَّر فيها الملك بعانخي جيشه من المساس بالمعابد المقدسة، ويأمرهم أن يحيطوها بالإجلال والتعظيم، وأن يدخلوا طيبة المقدسة خاشعين مبتهلين. ونعرف زحف الملك ترهاقا، ليخلص شمال الوادي من قبضة الآشوريين.
أخبرنا التاريخ عن ظاهرة هامة هي أنه كلما فقدت مصر استقلالها أو أجبرت على الإندماج في أمبراطوريات أكبر منها كالأمبراطورية الرومانية أو الإمبراطورية الفارسية، تضمحل العلاقات بين البلدين حتى تثوب مصر لرشدها ولنفسها وتستعيد كيانها فتزدهر الروابط من جديد. هذا ما كان من شأن التاريخ القديم.
يذكر السودانيون سنوات طويلة من المهانة والإذلال تحت حكم ولاة محمد علي التركي الشركسي حاكم مصر الذي جاء من الشمال ليعتدي على السودان المسلم سنة 1821. ويذكر السودانيون ولاة محمد علي الشراكسة والأرناؤوط وحلفاءهم الأوربيين حتى وفاق 1899م الذي اعترفت فيه بريطانيا بحق السيادة على مصر، وبالدعاوى الخديوية للسيادة على السودان، والتي يزعمون أنها تُستمد من حق الفتح، أو من الفرمانات العثمانية، أو بحق العمران. وفاق 1899 اعترف بالسيادة المصرية على السودان، لكن في واقع الأمر كانت مصر نفسها تحت قبضة الإحتلال ولم تكن تملك قرارها ولا مصيرها.
منذ ذلك التاريخ بذلت بريطانيا وسعها لتفكيك الصلات في وادي النيل. عزلت السودان من مصر، وعزلت شمال السودان من جنوب السودان، وعملت كل ما في وسعها لعرقلة الصلات الثقافية والتاريخية والتجارية بين البلدين. جعلت جنوب السودان منطقة مغلقة أمام المؤثرات الثقافية العربية والإسلامية. وانتهزت الحكومة البريطانية مقتل السير لي ستاك سردار الجيش المصري في القاهرة فقوضت آخر ما تبقى من علاقات بين البلدين. في تلك الأيام بلغت المهانة بمصر – قبل ذلك وبعده – أن أدمج منصب الحاكم العام في السودان في منصب القائد العام للجيش المصري، فكان الإنجليزي قائد الجيش المصري هو حاكم عام السودان، وهو ما يسمى بسردار الجيش المصري. وطيلة المفاوضات الطويلة المضنية بين بريطانيا ومصر حول الجلاء وحول قضية السودان كان الموقف (المصري) التقليدي هو ادعاء السيادة على السودان والسيطرة على موارد النيل.
أما بريطانيا ففي سعيها للإنفراد بالسودان كانت تتذرع بمسئوليتها نحو السودانيين وحقهم في تقرير مصيرهم. وكلنا نذكر قولة صدقي باشا: (جئتكم بالسيادة على السودان) ولكن في مواجهة ذلك كانت القوى الوطنية في مصر تنادي بالكفاح المشترك لإجلاء الإستعمار من وادي النيل بأسره. وتُوِّج هذا العمل والنضال البارز للشعبين بمذكرة مؤتمر الخريجين السوداني في 3 أبريل 1942حين رفع مؤتمر الخريجين مذكرة تاريخية للحاكم العام، حوت اثنى عشر مطلباً سياسياً. كان المطلب الأول فيها: (أن تُصدِر الحكومتان البريطانية والمصرية في أول فرصة سانحة، تصريحاً مشتركاً، يمنح السودان بحدوده الجغرافية حق تقرير المصير مباشرة، وضمان حرية التعبير مع ضمانات تؤكد للسودانيين حق تكييف علاقاتهم الطبيعية مع مصر في اتفاق خاص بين المصريين والسودانيين).
وكانت الخطوة التالية هي الثورة المصرية التي تخلت نهائياً عن دعاوى السيادة على السودان، وتوصلت مع السودانيين إلى اتفاق تاريخي هدفه الأساسي هو إنهاء الحكم الثنائي، وتصفية الإدارة البريطانية، ومنح حق تقرير المصير للشعب السوداني. وشاء السودان أن يختار الإستقلال.
هذه المقدمة التاريخية الهامة توضح مجال أو مسار العلاقات الطبيعية بين مصر والسودان منذ التاريخ القديم.
السودان تربطه بمصر إنتماءات عميقة كان ينبغي أن يستثمرها البلدان لتقوية هذه الإنتماءات ولمصلحة البلدين بتبني سياسات الحدود المفتوحة بدلاً من أن تكون بؤر للمنازعات ودعاوى للتبعية وتهريب ومشاكسات كان ينبغي أن تتحول إلى بؤر للمصالح المشتركة، والإنسجام الثقافي وتجارة الحدود وتبادل المنافع والتمازج الحضاري.
السودانيون من جانبهم قدموا أكثر ما يمكن أن تقدمه أي دولة جارة نبيلة وبلد حر لأشقائهم في الشمال. يذكرون بالإعزاز وقوفهم مع مصر حين تخلى السودانيون عن أراضيهم طوعاً وقاموا بترحيل مواطنيهم لتنعم مصر بأرض مياه السد العالي. وحين أقرضوا مصر الجزء الأكبر من نصيب السودان من مياه النيل وحين وقفوا مع مصر في الحروب فحين تهزم مصر يلجأ رئيسها عبد الناصر للخرطوم ويقول: (الخرطوم عاصمة الصمود) لتكون الخرطوم هي ملهمة عبد الناصر في الصمود. وهى التي تقود تنقية الجو العربي، ووقف الحرب اليمنية، وتدبر اللقاء التاريخي الشهير بين عبد الناصر والملك فيصل. بل ويسارع السودان قبل أية دولة عربية إلى قطع علاقاته السياسية والدبلوماسية كاملة مع الولايات المتحدة ومع بريطانيا أيام الحرب. ويستضيف الطيران المصري الجريح في قاعدة وادي سيدنا، فيخليها من الطلاب والسكان والمدينة ويجعلها قاعدة جوية مصرية. ويستضيف السودان الكلية الحربية المصرية على أرضه لتدريب وإعداد الضباط المصريين وفي ملحمة السد العالي ينسى السودانيون حلفا وأهلها، فيقدمونها ضحيةً وقرباناً أمام تحدي مصر للغرب. وفي كامب ديفيد، يغامر السودان بكل علاقاته العربية والإسلامية، فيقف مسانداً لمصر ويخسر كل العالم من حوله، كل ذلك وقفه السودان بسبب هذا الإنتماء، ليس بسبب أي مصلحة مع مصر أو مصلحة خارجية.
لكن مصر تعودت أن تعض اليد التي تمتد إليها بالإحسان. تعضها في كل موقف وفي كل مرة ففي حرب الخليج حيث تمزق العرب، وأصبح البترول العربي وأصبحت قناة السويس، من جديد، عبئاً إستراتيجياً خطيراً على الحياة العربية تصبح مصر هي العصا لتأديب السودان ويسعى رئيس مصر للفتنة بين السودان وأشقائه من الدول العربية. بل وتسعى مصر لوصم السودان بالإرهاب وتصنيفه ضمن دول الضد وضمن الدول الراعية للإرهاب. مصر هي التي تقود الحملة ضد السودان.
العلاقة بين السودان ومصر لا يمكن أن تكون علاقة اعتيادية بين أي دولتين جارتين فهي إما أن تسير في اتجاه التكامل والتوافق والوحدة، أو أن تسير في اتجاه الصراع وذلك لكثرة المصالح المشتركة التي تربط بينهما لكن مصر اختارت جانب الصراع وفضلته على جانب الوحدة والإخاء واختارت أن تقطع شريان الحياة الذي يمدها بالماء والخصب والنماء فمصر كانت وما زالت هي هبة السودان عبر النيل. ونتساءل هل نهر النيل هو النهر الوحيد المشترك بين دولتين في العالم؟ بالطبع لا ولكن لهذا النهر خصوصيته فهو حين يدخل مصر يعبر أرضاً صحراوية شرقه وغربه فيحيلها إلى أرض خضراء ثم إن دول المنبع مثل إثيوبيا ويوغندا وكينيا، ليست في حاجة له، بل هي في حاجة إلى تصريفه. وحتى كثير من أراضي السودان ليست في حاجة كثيرة إلى النيل، مثل غرب السودان، وشرقه ومن باب أولى جنوبه. فالنيل سلاح ذو حدين، إما أن يكون أداةً للتكامل، أو أداةً احتراب. ومشكلة مياه النيل يمكن احتواؤها بالتكامل، خاصة وأن السودان دعا مصر للإستثمار والزراعة في الأراضي السودانية، لكن مصر في استراتيجيتها تجاه السودان ظلت تعامله معاملة الأخ الأكبر المتنمر بل وتدعو العالم للإضرار بالسودان. ظلت مصر تبحث بحثاً عن نقاط الخلاف مع السودان. مصر مازالت تتحدث عن الإرهاب الذي منبعه السودان ومصر تحزن لرفع العقوبات عن السودان ومصر تحتل الأراضي السودانية في حلايب وشلاتين وتزعم أنها أرض مصرية وترفض التفاوض حولها. ومصر تحرض إعلامها للنيل من السودان ومصر تصدر المنتجات الملوثة للسودان وتغضب حين يرفض السودان استيراد مثل هذه المنتجات. ولك أن تسأل لماذا لم ينفجر الموقف العدائي بين البلدين إلا مؤخراً؟ والجواب هو أن السودان كان يلجأ لشعرة معاوية في كل مرة، فهو دائماً الذي يطيل حبال الصبر. وقد يفسر البعض أن هذا موقف ضعف من السودان، لكن السودان كان حتى وقت قريب يرجو أن تفيق مصر من غيبوبتها وتعيد صياغة استراتيجيتها تجاه السودان. وظل موقف السودان الرسمي منطلقاً من موقف الشعبين فلا يوجد مصري واحد من عامة الشعب ولا سوداني واحد يسره أن تحدث المواجهات والعداءات بين البلدين لكن الواقع ليس هو الأماني والمشاعر والعاطفة. ومصر سوف تخسر لو راهنت على ضعف السودان فقد طفح الكيل وفاض. لاشك أنه لو حدثت مواجهة فسوف يخسر الطرفان لكن مصر ستكون هي الخاسر الأكبر. الإعلام المصري بدأ أخيراً يحرض الساسة المصريين على أن تمتد حدود مصر إلى الشلال الرابع والسودانيون في مواقع التواصل الاجتماعي بدأوا يقولون إن صعيد مصر كله يتبع للسودان. فمثل هذا الكلام من الجانبين له خطورته. وأؤكد أن مصر لو خسرت السودان فلن يبقى لها حليف بعد ذلك.
لكننا مازلنا نقول رغم مرارة الظلم الذي يعيشه السودانيون من العدوان الإعلامي المصري، فظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند ما زلنا نقول إن المسرح السياسي لن يستمر طويلاً على ما هو عليه الآن. ومازلنا ندعو العقلاء في مصر إلى قيادة الوعي وتحكيم العقل المصري وكف الأذى الذي يأتينا من إعلامهم قبل أن تقع الواقعة فمصر وحضارتها وشعبها لا يسمح أن يستمر هذا الظلم على السودان وشعبه.
أما على المستوى الاستراتيجي فنقول إن هناك خطراً كامناً لابد من التنبيه عليه وهو أن العلاقات السودانية المصرية تسير من سيء إلى أسوأ وليس العكس. فاستراتيجية مصر تجاه السودان ظلت ثابتة فهي تريد أن يكون النظام السياسي في السودان أو الحكومة في السودان، رديفاً تابعاً للنظام المصري بصورة من صور التبعية، الآيديولوجية، والثقافية والإقتصادية وفي حال عدم توفر هذا فهي تريد أن ينزلق السودان في حالة من الإضطراب السياسي والإقتصادي، وعدم الإستقرار الأمني ليكون في دوامة من الإعياء السياسي. وفي حال تعذر هذين الخيارين فإن مصر تريد أن يبقى السودان معزولاً، محاصراً وضعيفاً فقد حرصت طوال الأعوام الماضية على هذا بل إن مصر الرسمية سعت لعدم رفع المقاطعة والحصار الأمريكي عن السودان حتى لا يجد جهة حليفة له وخاصة الدول المشاطئة للنيل.
لو أرادت مصر الحفاظ على علاقات متميزة مع السودان فعليها أن تعيد صياغة استراتيجيتها للتعاون والتعامل المشترك بين الحكومتين في مصر والسودان، بحيث تسعى نحو تحقيق وحماية مصالحها في السودان انطلاقاً من الندية في العلاقات وليس ادعاء الوصاية التي لن تفلح في أي يوم من الأيام. ولو فعلت هذا لوجدت متسعاً من الترحيب من الحكومة السودانية في أن تسعى معها بل ومن الشعب السوداني أجمعه رغم كل شيء ـ في تطوير علاقات تقوم على المصالح المشتركة، لكن الحكومة المصرية لا تريد تطوير مصالح مشتركة، وإنما تريد تحقيق مطامعها في المنطقة. وفرق كبير بين المصالح والمطامع.
إن على مصر أن تعلم أنها حين تتأزم أوضاعها الداخلية فتنقلها إلى معارك خارجية بالتحرش بالمملكة العربية السعودية مثلاً أو القيام بتمثيل دور الشرطي الدولي في إفريقيا أو التحرش بجارتها الأزلية السودان فإن ذلك لن يزيد مصر إلا بعداً عن تحقيق أمنها الداخلي فالسودانيون يراهنون على العقلاء من الشعب المصري.
لقد ظلت السياسة المصرية تجاه السودان تتسم بالخداع وتكريس الأمر الواقع وأشير هنا إلى مسالة الخلاف حول حلايب والخطوات التي قامت بها مصر الرسمية والتي تدل على التحرش، والطمع الشديد، واللعب على حبل الصبر السوداني بل لا تدل على العقلانية، ولا مراعاة المصالح المشتركة. ففي بداية الأمر اتفقت مصر مع السودان على تطوير العلاقات بين البلدين، وألا تكون مشكلة حلايب عائقة في هذا الصدد، وأن تحال إلى اللجان المتخصصة لتحل حلاً سلميا. لكن لا تمضي أيام على ذلك الاتفاق إلا وتقوم الحكومة المصرية بتعزيز الوجود الآلي والبشري الكثيف في المنطقة المتنازع عليها، فتنشيء المباني، والمباني غير الثابتة تجعلها مباني ثابتة، وتعزز القوى وتقوم بتحويل قرية شلاتين إلى مدينة كاملة، وتفتتح قيادات للقوات المسلحة المصرية والشرطة والأمن في المنطقة وتوزع الجوازات المصرية وبطاقات الشخصية لقبائل البشاريين، والعبابدة السودانية في المنطقة الممتدة من جنوب حلايب إلى الأراضي المصرية وتنشيء مباني جديدة داخل النقاط المصرية الموجودة أصلاً داخل الحدود السودانية وتهجم القوات المصرية على الشرطة السودانية، فتقتل بعض رجال الشرطة السودانية وتسعى سعياً حثيثاً لتمصير المواطنين الذين يوجدون في المنطقة ثم تعلن عن قيام محافظة كاملة (مصرية) اسمها حلايب وشلاتين!
حين نقول هذا نفرق دائماً بين علاقات الشعوب وعلاقات الحكام. أما الشعوب فمن تلقاء الجوار يكفي أن تقوم بينها علاقة صديقة وحميمة لتبادل المنافع والمصالح المشتركة، وهذا هو الشأن الموجود في كل أنحاء الأرض، فالطبيعي أن علاقات الجوار وحدها كافية لأن تؤسس قاعدة للتعامل السوي الرشيد بين الشعوب لكن مصر لم تراع كل ذلك فبدأ تفقد مكانها ومكانتها بين الشعوب. كانت مصر في يوم من الأيام زعيمة الأمة العربية، وحاضنة لجامعة الدول العربية وزعيمة العالم الإسلامي، وذات دور ريادي في إفريقيا، واستطاعت أن تقيم علاقات حتى مع عدوتها التقليدية اسرائيل فتطبع علاقاتها معها، واستطاعت أن تحل مشكلة طابا بالحوار، لكن من الواضح أنه من العسير على مصر، التي فعلت هذا مع اسرائيل عدو الأمة العربية والإسلامية، أن تقيم علاقات ندية وأخوية مع السودان. ومن الواضح أن مصر لا تريد هذا أو لا يراد لها هذا.
قال أحد الإخوة المتشائمين من إصلاح العلاقات السودانية المصرية إن مصر الرسمية لو خيرت لاختارت أن يكون السودان أرضاً وماء بلا بشر ولو استطاعت لفعلت بأهل السودان ما فعلته أمريكا بالهنود الحمر. ولأن ذلك ليس سهلاً فمصر دائماً، وفي كل سنوات حكمها ومراحلها كانت تحرص أن يكون الحكم في السودان ضعيفاً تستطيع من خلاله أن تستغل مياه النيل بغير حدود وإن لم تستطع ذلك فتتحرش بالنظام في السودان وتتخذ من الذرائع والمبررات مثل حلايب. ولو تخلى السودان عن حلايب بالكامل لمصر لبحثت عن سبب آخر وجيه أو غير وجيه لاستفزاز السودان. فهذه النوايا الحقيقية لمصر الرسمية. ورغم قناعتي أن كثيراً من المصريين والسودانيين يختلفون معه في هذا الرأي إلا أن ما نشاهده مؤخراً من تصدير المنتجات الملوثة وتصدير السلاح للحركات المسلحة التي تقاتل السودانيين وغير ذلك من المؤشرات ثم الهجمة الإعلامية الظالمة للتحقير من شأن السودان وشعبه وأهله ووصمهم بالعبيد في الإعلام المصري الرسمي بل والتهجم على ضيوف السودان وزواره يجعلنا لا نستبعد هذا الرأي المتطرف كثيراً.
إننا في السودان نحمل السلطة في مصر المسئولية كاملة فهي المتهم الأول عندنا فالسلطة في مصر لم تتصالح مع الشعب المصري والوجدان المصري في أي يوم من الأيام والدليل على ذلك هو الثورات المستمرة على مدار الحكومات التي تعاقبت على الحكم في مصر. وفي تقديري أيضاً أن الخلاف بين النظامين المصري والسوداني يندرج في إطار المصالح بين النظامين الحاكمين وليس بين الشعبين السوداني والمصري. لكنه الآن بدأ ينحو منحى الخلاف بين الشعبين أيضاً. فمصر الرسمية لاتعبر عن الوجدان المصري والشارع المصري تجاه السودان. ومصر تلعب الدور وفقاً لتغير المصالح ففي قضية حلايب، ذكر د. بطرس غالي في كتابه “أضواء على الدبلوماسية العربية” أن حلايب هذه أرض مقفرة وليس لمصر أي مصالح حقيقية فيها، ولكنها كانت تدخلاً من مصر حتى تتم الإنتخابات السودانية بعد قيام الوحدة المصرية السورية، فتتمكن الأحزاب الموالية لمصر في ذلك الوقت من الاستفادة من هذه الوحدة كرتاً رابحاً لها للفوز بالإنتخابات في السودان. إذن قضية حلايب بدأت سياسية في المقام الأول، والآن مصر تنقل لها الماء من السويس وحتى شلاتين، لأن حلايب ليس بها ماء أصلا. ومصر قصدت أن تستفز السودان وتجره إلى معركة لم يحدد زمانها وإن كان مكانها معلوماً.
إن النظرة الخديوية أن يظل السودان مزرعة خلفية أو حديقة خلفية لمصر هي ذهنية واضحة في الوجدان السياسي المصري، والإعلام المصري ينفخ فيها فيقول إن مصر كان يحكمها ملك مصر والسودان! وهذه فرية في أذهان المثقفين في مصر والسودان. فبعض المثقفين المصريين والسياسيين المصريين يعتقدون أن مصر استعمرت السودان وهذا غير صحيح. فمصر استقلت في عام 1954 بجلاء الإنجليز وهي لم تستعمر السودان في أي يوم من الأيام حتى يكون لهم يد وشعور بالعلوية علينا أوشعور بالدونية من جانبنا. وما كان لمصر في أي يوم من الأيام أن تستعمر السودان حتى تشعر بهذا الشعور. ومع أن فصل جنوب السودان كانت تعتبره مصر من مهددات الأمن القومي المصري. لكنها لم تستطع أن تقف في وجه الولايات المتحدة حينما حرضت جنوب السودان على الانفصال مع أنه حدث ضد إرادتها.
كلمة أخيرة ونصيحة للعقلاء من الشعب المصري:
بدلاً من أن توجهوا سهامكم نحو الغاضبين من الشعب السوداني وجهوها نحو الإعلام المصري الظالم الذي نعتقد أنه هو القنبلة الموقوتة التي من الممكن أن تنفجر وحينا نقول للشعبين في وادي النيل لقد ولى عهد السلام والاستقرار في المنطقة.