آدم أسود وحواء بيضاء
لـ د. عمر فضل الله
بقلم نهى عاصم
يهدي الكاتب روايته لكل مؤمن بالسلام في زمن الحروب الجائرة فيتساءل القاريء بعد هذا الإهداء القوي وقبله الاسم المحير. أي عمل هذا هو بصدده؟! ثم يدخل على شكر عجيب موجه للكاتب من شخصيتين هما هيلين وهيليوس “أي الشمس والقمر في الأساطير القديمة” اللذين حكيا حكايتيهما له بعدما ظلت روحاهما معذبتين لثمانية عقود وبعدما أدليا بشهادتيهما ارتاحت روحاهما ونامتا في سلام.
يالها من مقدمة مليئة بإثارة وتشويق، وهذا عهدنا بالمبدع الدكتور عمر فضل الله.. تجلس هيلين عند برج لندن تطالع الغربان المحلقة عند البرج وخاصة زوجاً منهما يناجي بعضهما بعضاً . تؤمن هيلين كما الانجليز أن موتاهم اتخذوا من حواصل الغربان مأوى لهم – هذه الغربان تهاجر إلى لندن وتأوي في البرج – فتبدأ في مناجاتهم وتذكر موت أخيها هيليوس في الخرطوم منذ سنوات. الذي قتل بالخطأ من قذيفة سلاح من زميل له ينظف سلاحه، وكان في العشرين من عمره وذلك عام ١٨٩٨. تعود هيلين بذاكرتها إلى أصل الحكاية، التي جعلتها هي وأخاها ينتقلان من إنجلترا إلى أم درمان .. قبلها عاشت هيلين في عهد الملكة فيكتوريا في شظف عيش رغم أن هذه الفترة كانت جالبة للكنوز من إفريقيا والهند والكاريبي، إلا أنها جاءت لأناس دون أناس، للطبقة العليا من السكان دون البقية . فأصبح هناك من يفضل النوم في تابوت الموتى مقابل أربعة بنسات بدلًا من غرفة تأخذ من قوته الكثير من المال بل ومن يشرب ويتحمم ويطبخ من مياه المجاري أيضًا
نشأت هيلين مع أخيها وعملا من أجل مساعدة والديهما في عدة أعمال انتهت بالنشل وتجريد الموتى اللذين يلقي بهم النهر، تجريدهم من الحلي ومن كنوزهم .. وكونوا فريقاً صغيراً للنشل من أربعة أفراد ولدين وبنتين.. كان لديهم رغم الفقر والعوز شعور أنهم أفضل ممن هم دونًا عنهم .. وكم استغلهم الأغنياء بجشع مقال بنسات قليلة
رواية مختلفة عن روايات الكاتب وفيها رؤية ونظرة لعالم انجلترا الخفي الذي لم يتطرق إليه أحد أو لم يتخيله، حيث تعلمنا جميعًا أن الشمس تشرق وتغرب على مملكة كل من فيها منعم.. عبر الأديب عن كل هذا بصورة رائعة موجعة فيرى القاريء المشاهد بحزن ويشاهد هيلين وهي تحاول الانتحار فيعيدها للتشبث بالحياة أمر عجيب.. وانتهى الأمر بالأخوين إلى خدعة من ضابط وعدهما بجنة التجنيد في الجيش البريطاني وهنا في رأيي بدأت حبكة الرواية.
تدربت هيلين على السلاح وتعلمت الكتابة والقراءة والتمريض والانتظام وأصبح لديها حياة عسكرية مختلفة تمامًا عن حياتها السابقة وهناك علمت بحكاية الجنرال الشهيد القديس الكولونيل تشارلس غوردون الذي قتل على أيدي الدراويش المتوحشين في بلاد السودان وأن إنجلترا ستنتقم لمقتله قريبًا.. من هنا كانت بداية الحكاية بسفر هيلين وأخيها إلى أم درمان السودان للقتال وتمريض الجرحى والانتقام والانتصار للجيش البريطاني فنجد هيلين أثناء تدربها على استخدام البندقية تقول: “شعرت بمتعة بالغة وحماس منقطع النظير وبالأمان وهي في يدي، وتحمست فتخيلت نفسي فوق سرج حصان ضخم أطارد السكان البدائيين الأفارقة لأصطادهم مثلما يصطاد نبلاء باكينجهام طائر التُدْرُج سيء الحظ”
ولكنها وهي ترى العتاد والأسلحة والجنود الذين في وسطهم جنود من السودان-وقبائل سودانية عدة انضمت إليهم أيضًا للقضاء على المهدوية- أخذت تتساءل: “ترى ماذا نريد نحن البريطانيون من هذا البلد؟ معقول كل هذا الجيش للانتقام لمقتل رجل واحد؟ أم ما الذي نريده حقًا من هذه الشعوب؟”. ومن السخرية ان تشبه هيلين ترفيه النوبيين لهم بكلام تذكرته من أحد ضباط الجيش البريطاني وهو يحكي عن ترفيه الهنود الحمر أيضًا للجيش الأمريكي .. تمكن الكاتب من وضع هذه المقارنة كي يعلم القاريء أن المحتل هو المحتل في كل مكان
كذلك مقارنة هيلين لشمس إنجلترا التي كانت هدية يتنعمون بها نادرًا مع شمس السودان التي أحرقتهم فأصبحت نقمة يتأذون منها.. ومقارنة العواصف الثلجية بالعواصف الترابية. كل هذا بتوصيف يجيده الكاتب وبمعان وصور غاية في الروعة حتى أنه يمتاز بخفة الظل حينما تنهمر الرمال على هيلين فتقول: “مؤكد أن صديقك سيهرب فزعًا لو شاهدك وأنت بهذه الصورة القبيحة المؤسفة وتمكن من التعرف عليك”. ثم تنتقل دفة الحديث من على لسان هيلين إلى هيليوس حينما تقمصت روحه في جسد هيلين فيحدثنا هنا كجندي محارب واصفًا لنا ساحات المعارك والعتاد في كلا الجانبين، فنجده يقول رغم سطوة جيشه وقوته ومقاومة فرقة الدراويش: “لقد بقيت أراقب ما يحدث أمامي وكأنه أحد الكوابيس أو الأحلام وليس شيئًا يقع على الحقيقة فأمر مثل هذا لا يكون إلا في القصص الخيالية وأساطير الملاحم القديمة التي يطلق مؤلفوها لخيالهم العنان دون كوابح ولا قيود”. وعادت هيلين تتحدث عن الحرب وعن خسارة بريطانيا في نظرها رغم الفوز الساحق في المعركة، وبعد المعركة بدأت في تطبيب ومعالجة الدروايش خلسة.. فأصبحت نايتنجيل أفريقيا بدلًا من نايتينجل شرابنل.. وصف لنا الكاتب كل هذه المشاهد ببراعة فرأيتها مشهداً سينمائياً تلو الآخر أثار في قلبي لوعة الأسى من الحروب وكما لو كان الكاتب يهديني أنا هذا العمل الرائع الشجي. . لن أتحدث عن الخاتمة فالحديث عنها يحتاج إلى الكثير والكثير كي نعرف سر آدم الأسود وحواء البيضاء.. من القلب ألف ألف شكر لثقتك التي لا تثمن حين أرسلت لي هذا العمل قبل أن يطبع وتمنياتي أن أراه قريبًا بصورة غلاف تليق بهذا العمل الملحمي .
نو_ها
اضف تعليقا