اسم الرواية : في انتظار القطار
المؤلف : د. عمر فضل الله
الصفحات : 274 ص
قراءة في الرواية:
مقدمة لطيفة قبل الدخول :
خضت في هذه الرواية مغامرة شيقة وانتقلت كما المرات السابقة عبر مركبة الزمن في لحظة.. أو فتحت لي نافذة القرن السابع عشر عبر رواية في انتظار القطار في لحظة أخرى.. وأنا أقرأ الرواية لم أكن أشعر بالزمن ولا بالوقت كم مضى، فابتدأت قراءتها ولم أتوقف إلا رغمًا عني عند انقطاع التيار الكهربائي فاضطررت أن أكمل قراءتها في ثلاث جلسات، فهي رواية شيقة.. لا تستطيع فراقها لأي سبب كان.. حالها حال ما قرأت للمؤلف من روايات سابقة.. فحينما أقرأ الرواية وأتوقف عن القراءة لسبب خارج عن إرادتي لا أترك عهدي بها أبدًا.. فأحدث إخوتي وأصدقائي وأهل داري عما قرأته عن بلادي الحبيبة..
تحدثت الرواية عن قصة حب عفيفة كانت بين سعدٍ وسعدية.. في البداية كانت القصة من رؤية سعد ثم كان الختام من منظور سعدية.. ولقد أبدع المؤلف في التعبير عن المنظورين وكأنما تجسد شخصيهما فأطلعنا من خلال الرواية ما يدور في خلدهما.. ولقد أعجبني في مرات عديدة التشبيهات البليغة التي يستخدمها فجعل لأرض السودان لساناً فتكلمت هذه الأرض عما حملته في ملايين السنين من ظلم وتنكيل وكذلك قتـل الانسان لأخيه الانسان..
الرواية :
اغترب سعد نحو مصر من أجل أن يلتحق بالأزهر الشريف فيكون عالمًا فذًا، وخطيبًا بارعًا.. ولكم أخرج الأزهر علماء في مختلف الأمصار والأقطار! ذهب سعد وحلمه أن يعود يوماً وقد لبس زي الأزهريين ليؤم الناس في الصلاة ويعظهم في المسجد ويكتب عقود الأنكحة… ومضى ومكث في الأزهر الشريف فترة من حياته .. وعاد للسودان رفقة صديقه سراج الدين.. من هو سراج الدين؟ لن أحدثك بالتأكيد فأحرق لك الراوية فإما أن تقرأ الرواية وتعرف من ذا الذي أقنع رجلا أن يتخلى عن الأزهر ويعود لرياسة المراكب.. أو أن تتخلى عن فضولك.
كشفت لنا الروية أمورًا محزنة وأحداثًا مؤسفة ارتكبها الترك على أبناء جلدتنا وآبائنا ذلك الزمان فإذا كانت الحرب التي لا تخلف وراءها إلا الأرامل واليتامى.. والحزن والهم الشديدين.. فما فعله الترك بحق بلادي هو أسوأ بكثير من الحرب. فلقد اعتدوا على النساء وانتهكوا شرفهن ثم قتلوا الأطفال الرضع.. وسفكوا دماء الشيوخ العزل.. وارتكبوا جرائم حرب بشعة بحق السودانين.. ومثلوا بجثثهم.. وأنا أشاهد ما تريني إياه نافذة الرواية كنت أغلقها لبعض الوقت.. لأتفكر عن أولئك الملأ من الوحوش فإذا كان محمد علي باشا سفاحًا فإن ابنه اسماعيل أشد شرًا وتنكيلًا منه فلقد أصدر مرسومًا بقتل كل شيء حي .. ولقد اخترق بذلك كل العهود والمواثيق الدولية .. وإن سألته لماذا يفعل ذلك فهو حتى لا يعلم.. في بداية الأمر جاء بحثًا عن الذهب والرجال.. ثم انحرف عن مساره واتبع شبقه نحو الدماء..
كشفت لنا الرواية إقدام وشجاعة (الشوايقة) في الذود عن عرضهم ومالهم.. وكيف رجحت الكفة للأتراك لاستخدامهم السلاح الناري (سلاح الجبناء) .. ولقد علمت أن أهل بلادي لا ينصاعون أبدًا للمحتل.. وأما الخونة منهم فهم عديمو انتماء أو مجهولو الأبوين كما ستكشف الرواية.. وإن التُرك شعب همج فمن أجل مصالحهم الشخصية أحرقوا وقتلوا قرى بأكملها.. جرائم كانت أسوأ وأشد تنكيلًا من التطهير العرقي في أمريكا الشمالية وهنودها الحمر.. ولم يتركوا الأحياء وحسب بل لم يتركوا حتى الآثار فكانوا يمحون الآثار التي كانت لتكون في يومنا هذا مزارات سياحية يرتادها الناس من مختلف أنحاء العالم. كانوا يفجرون تلك الأثار كالمعابد والأهرامات بالمدافع من أجل السطو على ثرواتها رغم أنه كان ممكناً ببساطة أن يفتحوها دون أن يفجروها..
لدهشتي إذا تقدمنا في الرواية علمت أن المك نمر زعيم قبيلة الجعليين لم يغدر بإسماعيل باشا كما في القصة المشهورة. ولكنه قابله وجهاً لوجه وقتله بسيفه ثم أحرقه هو وجنوده داخل ناديهم المنكر.. وهاجر بعد ذلك نازحًا إلى الحبشة..
فتحت لنا الرواية نافذة أخرى أخبرتنا من هي المرأة السودانية.. تلك المرأة التي لا ترضى أن ينتهك شرفها بأي شكل كان فنجد أن بضعًا من النساء يتردين من أعالي الجبال انتحارًا للحفاظ على شرفهن وأخريات يقفزن في النيل فيغرقن كل ذلك حفاظًا على شرفهن..
رغم تقدم الزمان وتعاقب الأجيال نجد أن ما كان يضعف السودانيين هو تفرقهم وتشتتهم فكما قال جورج وهو إحدى شخصيات الرواية الثانوية وهو أمريكي الجنسية:
− بلدي دولةٌ موحدةٌ ، اتَّحَدت جَميعُ ولاياتها، وأنتم هنا قبائلُ متفرقةٌ. ونحن لدينا رئيس واحدٌ هناك في بلادنا، لكن يوجد عندَكم في هذه البلاد ملوكٌ كثيرون يحاربُ بعضُهم بعضاً.
كان السودان ليكون بما يحمله من ثروات ورجال؛ الدولة الرأسمالية الأعظم والأقوى في العالم.. ولكن هذه مشيئة الله فما علينا سوى أن نسلم ونرضى بها ونسأله النماء لبلادي في قادم السنوات.
ما استفدته وعلمته من الرواية :
– علمت أن ما فعله محمد علي دون أن ألقبه بالباشا أن دخوله واستعماره للسودان ليس إلا خطة من المملكة المتحدة.. ومحمد علي لم يكن إلا بساطاً وسجادة داست عليها بريطانيا وجمع من بعض الدول الأوربية لغزو السودان والسطو على آثاره وممتلكاته.. وما يثبت ذلك هو الجواسيس والرحالة البريطانيون الذي سبقوا الأتراك وذهبوا في رحلة استكشافية عبر النيل.. فعرفوا طباع السودانيين وتفرقهم.. وكذلك ما يملكونه من ممتلكات وثروات..
– أن القرى السودانية ديارها مترابطة وكأنما هي دار واحدة.. فيكملون نقص بعضهم البعض. ويجبرون كسر وحزن بعضهم. يشاركون الأفراح والأتراح.. السعادة والحزن.. الحلو.. والمر .. فهم كرماء لا يبخل أحد بما لديه لغيره ويحفظون الجميل والمعروف ولو امتد لعشرات السنين.
– أن الأحرار لا يبيعون ولا يخونون بلادهم أبدًا.
– اكتسبت من الرواية الكثير من المفردات والتقنيات والتراكيب اللغوية.
– علمت أن معظم الأغاني والأهازيج التي كنا نتغنى بها ونحن صغار كانت قديمة قدم السودان.
– وكذلك استفدت عما تم ذكره من فوائد للأعشاب التقليدية السودانية خصوصا ما تم ذكره عن البَامْبي (البطاطا الحلوة) وكان نصه:
(وفي إحدى المرات جيء بطفلٍ خدشته القطط بأظافرها، وكنا قد أحضرنا بعض البطاطا لصنع الطعام فأخذ (كَتَرَاس) وهو طبيب يوناني حبة بطاطا كبيرة وشواها على النار ثم أخذ لبها ووضعه على الجرح وطلب من أم الطفل أن تزيلها قبل النوم وتغسل المنطقة بالماء الدافيء. وللدهشة جاءت الأم بعد ثلاثة أيام ولا أثر للخدوش ولا الجروح في ساعدي الطفل).
قبل الختام :
(أتمنى أن تكون روايات عمر فضل الله منهجاً يدرس في المناهج الدراسية لما فيها من معرفة وتراكيب لغوية.. وسرد ممتع ومشوق.. ولأنها تزيد المرء اعتزازًا وفخرًا بأرضه.. ولأنها تبقى راسخة، فأنا شخصيًا لم أكن أحب حصص التاريخ المملة والرتيبة وكنت أشعر أنني مجبر على قراءتها ولولا أنها ستؤثر في التحصيل ما قرأتها.. ولكن إذا سألتني عن التاريخ اليوم وعن ماضي البلاد فسأحدثك بفضل الله ثم بفضل روايات د. عمر فضل الله المعرفية التاريخية عن تاريخ السودان. وأتمنى أن يوفق الدكتور في مشروعه الروائي.. فأواصل معه سلسلة التشويق).
أختم بهذا الاقتباس عن الجنود مختلفي الأعراق الذين غزوا السودان تحت مظلة مطاردة وقتل المماليك:
( هؤلاء الغاصبون جنودٌ بلا ماضٍ ولا تاريخ. جاءوا من المجهول يرتزقون بسفك دماء سكان هذه الرقعة التي أسرجَ آباؤنا مصابيحَ الحضارة فيها حين كانت أوروبا عمياء تتخبط في ظلام الجهل. لن تطول قاماتُهم لتَبْلُغَ ما بلَغَتْهُ أرضُنا هذه مهما فعلوا, ورغم ذلك فهاهم اليوم يجلسون فوق ثراها يأكلون من ثمراتها ويشربون من نيلها).
أحمد محمد عوض
اضف تعليقا