السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
اليوم احببت ان انقل اليكم هذه القصة ( ضحيتان من ضحايا الباخرة ) التي كانت حزن على جميع سكان منطقة الجريف شرق… اترككم مع القصه:
في ذات حزن قديم إن أنسى لا أنسى هذه الأيام الموجعة التي كانت موعودة بها مدينتنا الوادعة التي
تتوسد كتف النيل الأزرق مرقداً هانيئاً.. وهناك وإينما دق باب الفرح مبشراً تجدهم يفترشون قلوبهم
ساحة نقية لدفق من السرور وراحة نفس وعند ساعة الأنس تجد الكل مؤانس وموادد وعندما يسرق
الحزن فيهم لحظة غالية أو تخطف الملمات فيهم عزيزاً تساكنهم اللوعة وحزن أنين قابع بأعماق
ديارهم .. فالحزن للكل والفرح للجميع تجد فيهم نشيج متناسق وربط بديع من تقليد القرية وحنينية أهل
البلد وثقافة وفهم ومعايشة المدنية ومسايرتها .. في منتصف الثمانينات كان لابد لنا نحن في مدينة
الجريف شرق تحديداً أن يحمل كل منا (ألماً عميقاً) وحزناً لا تمحيه بشريات السنون .. في ذلك العام
شاءت الأقدار أن تأتي ببشرياتها في منتصف العام وتحمل خبر نجاح وبروز مدرسة (الخير حاج موسى
الثانوية للبنات) ومجيئها في مصاف العشر الأوائل .. نهلت مدينتا الثمالة من كأس النجاح الكل كان
فخوراً ومبهوراً بهذا البساط الأنيق الذي نسجته بنات هذه المدرسة وأهدته وشاحاً سندسياً لمنطقتهم (
الجريف ) .
. سكنتنا الأفراح أياماً وعاشت فينا حلاوة العطاء .. فكل دار بالجريف كانت به طالبة نجيبة
ألبست ساكنيها وشاح النبوغ والنجاح . فما كان من مبرة لهذا النجاح إلا وأن قررت إدارة هذه
المدرسة (رحلة مجانية) إلى قاهرة المعز لكل نجيبة وناجحة مع مرافق من ذويها لرحلة علمية
وترفيهية .. فإنهالت التبرعات من أهالي المنطقة وحميمي النجاح …. وفي صباح غائم ونحن نستقبل
نفحات موسم خريفي سمعت طرق الباب حينها.. فإذا بها جارتنا (هويدا) خريجة ذلكم الإبداع والنبوغ
هي مهرة تشابي جوار القمر .. وضجة جمالية حصينة والمقرون ذكرها (بما شاء الله) دائماً .. أغدق
عليها الجمال بكل ما أوتي حتى ظننا أنها ستورثه … دخلت بضياءها تتبعها فرحتها العارمة بموافقة
أبيها على الإلتحاق بركب هذه الرحلة التي تنظمها إدارة المدرسة وبرفقة أخيها (عمر) .. جاءت تزف
هذا الخبر للخالة (فوزية) أقرب الأقربون حباً لها ووالدة خطيبها (أحمد) الذي يعمل في دولة خليجية ..
أخذت من الدعوات الصادقات ما قدر الله لها ومن الوصايا ما أبرز حب الكل لشخصها . دارت عجلة
الأيام وإذا بهم قيام .. حقائب من الدهشة والجمال .. (35) طالبة و (47) معلم ومرافق .. سار بهم
قطار الشوق قاطعاً وملتهماً مساحات العشم إلى ساكني شمال النيل أرض الفراعنة .. فنزلوا صفواً
وجمالاً إلى أرض حلفا .. ومنها أشرعت بهم سفن أحلامهم تسطعمهن طعم نجاحاتهن .. وصلن مصر
(أم الدنيا) وبرفقتهن أبائهن من الأساتذة ومرافقيهن من الأخوان وعلى ذلك .. جابوا تلك الديار شبراً ثم
شبر عاثوا فيها معرفة وعلماً وفناً وقفوا على أبواب ثقافتها وعلومها وفنونها وتاريخها وحضارتها ..
مضت بهم الأيام كأنها نسج من بساط الريح رحل بهم إلى أقاصي السند وبلاد العجائب أو كأنها أسطورة
من أقاصيص ألف ليلة وليلة لم يتمنوا فيها أن يسكت (شهريار) أبداً .. أختزنت بها الذكرى أجمل
اللحظات وأروعها … أصر (أحمد) أن يلتحق بـ (هويدا) بعد أن جهز جميع مستلزمات زواجه منها
والذي كان مربوطاً بنهاية العام الدراسي وكانت فرصة أن يلتقيا بمصر ويكملا ما تبقى من شتلات
الفرح .. وكان ما خططا له .. وقضي الجميع ساعات نشوى بالغة الوصف .. وأخذت البعثة تحتفل بأحمد
وهويدا في شكل بروفات ليوم عرسهما وألبسوا (هويدا) فرح في ثوب أبيض وغنوا لهم وسيروهم في
شكل إحتفالية رائعة ختموا بها أخر عهدهم بمصر. حملوا حقائب الزكريات وهدايا من مشاعر الأنس
والغبطة حركتهم وحشتهم لبلدهم الحبيبة ولأهلهم الطيبين .. خشوا على أنفسهم التعب وهم سيجترون
هذا الحقل من الذكرى الجميلة وحصاد رحلة دقت أوتادها في حناياهم .. وهم في بساط الرجعة وفي
رحلة الإياب إلى السودان أمخرت سفينتهم المسماه (10 رمضان) وهم يودعون مصر والأمنيات حبلي
بالرجوع وفي طريق العودة وفي مقاصد مدينة (أبي سمبل) كانوا مجتمعين في تسامر أنيق .. إلتحمت
مشاعرهم وقاربت بينهم الأيام .. وهم في أقاصي سفوح سعادتهم فإذا بالباخرة تأبي إلا وأن تحرق
مشاعرهم تلك .. وحريق هائل يستشري في جسم الباخرة ووتتعالى صرخات وصيحات جميع راكبيها ..
إنتشر الزعر بين الجميع والنار تلتهم كل من تجده في طريقها .. تقاذف الكثير في جوف النيل هرباً من
النيران المشتعلة .. وفي ساعة زمن قصيرة ذهب كل الفرح الامحدود إنتحرت تلك المشاعرالمحدودة..
ماكان من النار إلا أن إلتهمت من تحبهم كصغار القطة وماكان من النيل إلا أن إحتضن من يألفهم في
أعماقه .. وكانت مدينتنا الوادعة حينها تتلهف بشوق حميم ووجد عميق وبين جوانحها لحظات عالقة
بأحلام المستقبل .. تشتاق إلى زهراتها .. عندها جاء الخبر .. وهل لحظات الدمع تحكى؟ .. لقد إحترقت
قلوبهم في لحظة مميتة جلسوا يبكون وكما لو كان البكاء تنفسهم .. زفرات من الألم تكاد تأخذ الروح
وماذا بقي من الروح ؟ فقد ذهبت روحهم إلى غير رجعة .. نضب معين الدمع من مآقيهم .. حسرة لم
تبارح قلوبهم الصافية .. حلاك غيمة سوداء غشت عيونهم … لقد أجبر بعضهم للعمى لفقد عزيز.. كانت
المدينة مأتماً كبيراً لفترة كبيرة أيضاً بحجم ذاك الحزن .. تخيلوا في كل بيتاً مأتماً .. أماً تبكي وتنوح
وأباً مكلوماً وأخوة تنهشهم الحسرات والعبرات .. بكت مدينتنا وبكينا لبكائها … ولم يرجع (أحمد) ولا
(هويدا) .. نجا منهم (9) أفراد فقط . اللهم اغفر لهم و ارحمهم يا ارحم الراحمين إنها ذكرى (الباخرة
10 رمضان) (من الواقع بتصرف) كلم بنيات الجرف تتبرا من بحراً غدر اتغابى ما راعى الولف صاد
الخطيبين بي غدر ليك حق يعافيك الحراز واليسطفيك طرفي وعُشر يا متوك الناس العزاز نابع قليبك
من حجر ما بتنفع انت بلا خريف الصاقعة والريح والمطر ما اظن نخيلك هز فوق سيرة عريس نازل البحر للشاعر : (حميد)
هذا النص لكــــاتب سوداني جرافي( الأشتر ) كاتب بمنتديات النيلين
اضف تعليقا