الخامس والعشرون من مايو 1983م لم يكن يوماً عادياً في تاريخ السودان، حيث فقد فيه ( 350) من أبنائه في حادثة حريق وغرق الباخرة بالنيل، الذين تم انتشال جثثهم، وإنقاذ الناجين بواسطة السلطات المصرية. غداً الأربعاء تمر الذكرى الـ39 لشهداء الباخرة (عشرة رمضان) ، ودعوات الرحمة والمغفرة لم تنقطع من أهلهم وأصدقائهم.
الخرطوم : وجدان طلحة
حريق هائل
الحادثة التي مر عليها (39) عاماً يقول الناجون إنهم نطقوا الشهادة بعد أن رأوا الموت بأعينهم حرقاً وغرقاً في آن، أمر يختلف عن الموت بأي وسيلة أخرى لأنك تنتظر دورك في الرحيل الذي سبقك إليه من كان يجلس بالقرب منك أو يتحدث إليك.
العميد شرطة معاش، نصر الدين طه، كشف لـ(السوداني)، أدق تفاصيل الرحلة، كان وقتها يعمل ضابط شرطة برتبة ملازم بجوازات وادي حلفا، وكان ضمن المشاركين في فرز الجثامين التي استغرق بعضها أسبوعاً لإخراجها من الباخرة نسبة لارتفاع درجة حرار الحديد بفعل النيران، وقال إن الرحلة تحركت يوم الاثنين 23 مايو 1983 من ميناء السد العالى متجهة إلى وادي حلفا، وبعد يوم من انطلاقها توقفت للمبيت على بعد 10 كيلو متر جنوب مدينة أبو سمبل، وفي يوم الثلاثاء حوالي الساعة السابعة مساء، خلُد معظم الركاب والطاقم للنوم بعد يوم طويل قضى فيه الجميع ساعات نشوة وتسامر أنيق يعجز عنه الوصف، فرحين بقربهم من الوصول إلى أرض الوطن، ويوم الأربعاء 25 مايو حوالي الساعة (1:20) صباحاً اندلع حريق هائل بالباخرة وتعالت صرخات وصيحات الركاب كانوا يشاهدون النار تلتهم كل شيء، بعضهم قفز في النيل هرباً من النيران، مشيراً إلى أن الباخرة احترقت في (4) ساعات منذ اندلاع الحريق، ووصل أول قارب إنقاذ من شرطة أبو سمبل في حوالي العاشرة صباحاً، لافتاً إلى أنه كان على متن الباخرة عدد (642) راكباً، إضافة إلى (28) يمثلون طاقم الباخرة، ليصبح العدد الكلي (670)، نجا منهم (320) شخصاً ، فيما لقي (350) شخصاً حتفهم بين غريق وحريق، إضافة إلى آخرين لقوا مصرعهم نتيجه الصدمات العصبية ولدغات الأفاعي والعقارب.
إسعاف المصابين
في يوم الأربعاء 25 مايو، وكان عطلة، ذهب طه إلى مكتب الجوازات في انتظار دخول الباخرة إلى الميناء لإكمال إجراءات دخول الركاب، ولكن تأخر وصولها، وقال إنه استقبل اتصالاً هاتفياً من مهندس محطة الأقمار الأرضية بوادي حلفا، يفيد بأنه سمع أخباراً من أسوان بأن حريقاً اندلع بالباخرة، طلب تأكيد الخبر وإفادته، بعدها تلقى اتصالاً هاتفياً من أسوان من مدير الحركة بهيئة وادي النيل للملاحة، يفيد بأنه حدث حريق بنسبة (20%) بالباخرة، وتمت السيطرة عليه، وأن الباخرة في طريقها إلى وادي حلفا، وعلينا تجهيز قافلة طبية والتحرك نحوها لإسعاف بعض المصابين، وبالفعل تم الاتصال بالسلطات الصحية والإدارية، وتم تجهيز القافلة وتحركنا بصندل بضائع شمالاً في اتجاه أبوسمبل، وفي الطريق لفت نظره ألواح خشب محروق طافية على النيل، تسلل الشك إلى قلبه بأن الحريق بالباخرة أكبر من (20%)، لكنه لم يتوقع أن يكون بنسبة (100%)، وأثناء سيرهم وتقريباً بعد ساعة شاهدوا حطام الصنادل على الضفة الشرقية للنيل بالقرب من قرى قسطل وادندان المصرية، في تلك الأثناء اقتربت منهم طائرة (هليكوبتر) تابعة للجيش المصري، أشار لهم الكابتن بمواصلة الرحلة إلى أبوسمبل.
وزراء مصريون
طه أشار إلى أنه وعند وصولهم إلى مطار أبوسمبل وجدوا (8) وزراء مصريين على رأسهم عاطف صدقي الذي عقد معهم اجتماعاً تنويرياً عن الحادث وكان ضمن الحضور الوزيرة آمال عثمان، وحسين أبو باشا وزير الداخلية، وسعد مامون وزير الحكم المحلي، إضافه إلى آخرين، ومحافظ أسوان، ومدير جوازات أسوان، ومدير شرطة المسطحات المائية، ولم يجد مسؤولاً واحداً من الحكومه السودانية أو السفارة السودانية، وكانت الحكومة السودانية تحتفل بالذكرى الـ14 لانقلاب مايو .
وقال إن الحكومة لم تعدل من برامجها الاحتفالية وعندما نقل الخبر إلى الرئيس نميري، وكان بجانبه الرئيس المصري، اكتفى بالتوجيه بدفن الجثامين في مكان الحادث، وأفادنا السيد عاطف صدقي بأنه تم تجهيز قوة من (3) طائرات، وقوة بقيادة عميد و(55) رائداً، وعدد من الأفراد، و(55) (لنش مطاطي)، إضافة لعدد (20) شاحنة كبيرة، و(3) سيارات دفع رباعي لتنقلاتنا وشقتين للسكن بطاقم كامل من العمال والطباخين، كما تم تجهيز الأكفان لكل الشهداء، إضافة لجلباب وحذاء ومبلغ من المال للناجين.
تصنيف الجثث
العميد شرطة (م) نصر الدين طه، طلب من السيد مدير جوازات أسوان كشفاً بأسماء ركاب الباخرة، فأحضر له وبسرعة كشفاً بأسماء كل الركاب، وكشفاً آخر بأسماء الذكور فقط، وآخر بأسماء الإناث، وآخر بأسماء الأطفال، وكشفاً بالمضافين في جواز سفر واحد، بعد ذلك تحرك ضمن مجموعة إلى المستشفى، ووجدوا حوالي 44 جثة أغلبهم كان سبب الوفاة صدمة عصبية أو لدغة أفعى أو عقرب أو من آثار الحريق، وأعادوا تقسيم نفسهم إلى مجموعتين، الأولى لحصر الناجين، والثانية للتعرف على الجثث، وكتابة أوصاف الذين لم يتم التعرف عليهم، وتم تصنيف الجثث إلى ذكور وإناث كبار، وذكور وإناث أطفال، ، وكل مجموعة في غرفة منفصلة، بعد ذلك بدأوا في تفتيش ملابس الجثث، وإذا تم العثور على بطاقة أو جواز سفر يتم كتابة الوصف والملابس تحت الاسم على كشف المعلومين، الذي يبدأ بمعلوم ذكر رقم (1) ، ثم معلوم ذكر رقم (2) وهكذا، وتم جمع وتحريز الحلي والساعات التي كان يرتديها بعض الشهداء، ثم تكفن الجثة ويكتب عليها الاسم، وتوضع مع ذكور معلومين، وإذا لم يتم العثور على بطاقة أو جواز يدون تحت مجهول ذكر رقم (1) وتكتب أوصافه بكل دقة، ويكفن ويكتب عليه مجهول ذكر رقم (1) وذلك بعد أن يتم السماح للناجين بالتعرف على الجثث قبل تكفينها، أما الذين يتم التعرف عليهم فتكتب أسماؤهم ويحولون إلى محموعة المعلومين وهكذا، بعد ذلك تم أخذ الجثث في (6) شاحنات حسب تصنيفهم، وتم تجهيز مقبرة الشهداء كمقابر جماعية أعطي رقم لكل مقبرة، وتم تصوير المقابر، وتم إحضار رسام لرسمها ، فالمقبرة رقم (1) مثلاً بها معلومون ذكور فلان وفلان، والمقبرة رقم (2) بها مجهولون ذكور رقم 1و2 و3، والآن يمكن لأسر الشهداء أن تعرف أبناءها في أي مقبرة، وقال طه إن هذه المستندات يفترض أن تكون موجودة في النيابة المصرية، وإدارة الجوازات بالخرطوم، ومكتب جوازات وادي حلفا، ووكالة سونا للأنباء .
الزيت والسمن
نصر الدين طه يقول إن الباخرة (عشرة رمضان) كانت أكبر باخرة تمتلكها هيئة وادي النيل للملاحة النهرية في ذلك الوقت، وقبل الرحلة الأخيرة للباخرة خضعت لأعمال الصيانة الدورية؛ مما يعني فصل الباخرة عن الصنادل، وعند إعادة الباخرة للعمل في يوم الاثنين 23 مايو ولضيق الوقت تم ربط الصنادل بالباخرة من جانب واحد إذ جرت العادة أن تكون الباخرة في الوسط، والصنادل على الأطراف، وكان الصندل الذي به المخزن الرئيسي لتموين الباخرة، وبه كمية من صفائح الزيت والسمنة والطحنية، بالإضافة للبضائع التي يجلبها الطاقم التي جلها مواد مشتعلة، هو الاقرب للباخرة، وبالتحديد الجزء الذي يقع فيه المطبخ الرئيسي للباخرة، وأضاف:” أغلب شهود العيان أكدوا أن بداية الحريق كانت من هذا المخزن، وكان يجب ربط الصنادل مع بعضها ومع الباخرة بحبال النايلون وحبال السلك والجنازير، وقد استعمل في تلك الرحلة حبال النايلون فقط، وهذا ما إدى الي انفصال الباخرة لثلاث قطع، بعد أن التهمت النيران الحبال، وكان هذا أول خطأ أدى إلى زيادة عدد الضحايا، وهذا الأمر سهل على الموج الدفع بها بعيداً عن اليابس، برغم أن الرياح في تلك الليلة كانت شمالية شمالية غربية بسرعة عشرة أميال في الساعة مع ارتفاع درجه الحرارة في أواخر شهر مايو، كما أن البحارة اكتفوا بربط الباخرة بحبال النايلون فقط على الجبل، ولم يضيفوا حبال السلك، إضافه لعدم رمي الهلب (القردة)، بالإضافة إلى عودة الباخرة متأخرة من الصيانة، ولضيق الوقت وانقضاء ساعات عمل موظفي الجمارك كانت الإجراءات سهلة، وسمح للجميع بأخذ أمتعتهم كاملة، إضافة لذلك كان هذا موسم عودة رعاة الإبل ببضائعهم الثقيلة التي تتمثل في المشمعات الثقيلة القابلة للالتهاب، ففي ذلك اليوم صعد الجميع إلى الباخرة وهم سعداء، بل إن بعضهم كان يعرض ويرقص فرحاً على رصيف ميناء السد العالي.
35 طالبة
ضمن ركاب الباخرة كان وزير المعارف السابق، عمر مصطفى، و(35) طالبة من مدرسة خير الحاج موسى بالجريف شرق، و(47) من الأساتذة والمرافقين، نجا منهم (9)، أما الشهيد الأستاذ حسن مصطفى خالد الذي كان مشرفاً على الرحلة، رفض أن ينجو بنفسه، واصر على الموت مع طالباته ممسكاً بالحقيبه الدبلوماسية التي كتب عليها الرحلة، التي بها وثائق وأمانات أفراد الرحلة، ظل ممسكا بها حتى انتشال جثمانه، وقد ساعدت الوثائق الموجودة بها في التعرف على كثيرات من الشهيدات.
الناجون من الموت تم انتشالهم من النيل، وتم حصرهم، ونُقل سكان وادي حلفا ودنقلا والسكوت والمحس الي وادي حلفا بالنيل عن طريق البواخر، أما بقية الناجين فتم نقلتهم بطائرات حربية مصرية إلى القاعدة الجوية الخرطوم وإلى وادي سيدنا.
نصر الدين طه أشار إلى أنه تم انتشال أغلب الجثث عدا (55) جثة لم يتم العثور عليها، ولم يتمكن هو وفريق الإنقاذ من دخول الباخرة والصنادل في خلال الأيام الأولى للحادث نسبة لسخانة الحديد، وبعد أسبوع وجدوا أن طوابق الباخرة قد تراكمت في الجزء الحديدي أسفل الباخرة الملامس للماء، وقال: ( ثلا تجد أثر ليد أو رجل، ولكن عندما تلمسها تتحول إلى رماد ومواد فحمية، كما وجدت بعض الجثث داخل خزانات المياه وقد تحللت تماماً).
وتم حصر (26) برميلاً يعتقد أنها كانت مليئه بالجازولين والشحوم الخاص بالباخرة، وتم العثور أجزاء صفائح فارغة قدر عددها بحوالي (52) صفيحة يُعتقد أن طاقم الباخرة كان يجلبها وهي مليئة بالسبيرتو والكروسين لبيعها بمدينة وادي حلفا، كما عثر على حطام سنادر غاز قدرت بعدد (21) أنبوبة كان يستعمل بعضها في مطعم الباخرة، والباقي للبيع بحلفا.
مماطلة الهيئة
طه نوه، في حديثه لـ(السوداني)، أنه عندما غرقت عبارة السلام 98 المصرية في العام 2006 تناقلت وسائل الإعلام الخبر، ولم تهدأ الدنيا في مصر أو خارجها، وأصبحت قضية رأي عام، وصلت إلى أعلى سلطة في الدولة لكثرة عدد الضحايا من المصريين، وتم تعويض المتضررين بعد حكم المحكمة، وأضاف: “لكن لأننا تعودنا على عدم المطالبة بحقوقننا، وبعد 28 عاماً من رفع الدعوى بواسطة محامي مصرى أقرت المحكمة المصرية التعويضات لضحايا ومتضرري الباخرة (عشرة رمضان) وسط فصول من المماطلة من هيئة وادي النيل للملاحة”.
اضف تعليقا