أخبار عروة بن حزام:
هو عروة بن حزام بن مهاصر، أحد بني حزام بن ضبة بن عبد بن كبير بن عذرة. شاعر إسلامي، أحد المتيَّمين الذين قتَلَهم الهوى، لا يُعرَف له شعرٌ إلا في عفراء بنت عمِّه عقال بن مهاصر.
تركه والده صغيرًا دون إرادته وهلَك، عاشَ في كنف عمِّه عقال وفي حِجرِه، وعاشَتْ معه في ذلك البيت ابنة عمٍّ له في مثل سنِّه، فأَلِفَها وأَلِفَتْه، يَلعَبان معًا، ويَأكُلان معًا، وكان عمُّه عندما يراه وابنته في هناءٍ وسرور وغبطة وحبور يقول له: أَبشِر يا ابن أخي؛ ستكون عفراء لك زوجةً – إنْ شاء الله – كبر وكبرت، وإلى النساء توجَّهت وبالنساء لَحِقَتْ، وإلى الرجال افتَرَق وبالرجال التَحَق، فزاد في قلبه أُوار حبِّها وزاد تعلُّقُه بها، وتوجَّه إلى عمَّةٍ له: يا عمَّة، إنِّي لأكلِّمك وأنا مستحٍ منك، والله لم أفعل حتى ضِقتُ ذرعًا بالذي أنا فيه، وبثَّها شَكواه في عَفراء، وإلى أخيها عقال تَوجَّهت وفي التَّوِّ والحال انطَلقَتْ وهناك دار الحوار:
وكانت أمُّها سيِّئة الرأي فيه، تُرِيد لابنتها ذا مالٍ ووَفْرٍ، وكانت عرضة ذلك كمالاً وجمالاً، فلمَّا تكامَلَتْ سنه وبلغ أشده عرف أنَّ رجلاً من قومِه ذا يَسارٍ ومال كثير يَخطُبها، فأتى عمَّه وقال: يا عم، قد عرفت حقِّي وقرابتي، وإني ولدك، ورُبِّيت في حجرك، وقد بلغَنِي أنَّ رجلاً يَخطُب عفراء، فإنْ أسعَفتَه بطلبته قتلتَنِي وسفكت دمي، فأنشدك الله ورَحِمِي وحقِّي، فرَقَّ له وقال: يا بُنَيِّ، أنت معدم، وحالنا قريبة من حالك، ولست مخرجها إلى سواك، وأمُّها قد أبَتْ أن تزوجها إلا بمهرٍ غالٍ، فاضطرب واسترزق الله تعالى.
فجاء إلى أمِّها فألطفها ودارها، فأَبَتْ أن تُجِيبه إلا بما تحتَكِمه من المهر، وبعد أنْ يسوق شطره إليها، فوعدها بذلك.
وعلم أنَّه لا ينفعه قرابةٌ ولا غيرها إلا بالمال الذي يَطلُبونه، فعَمِلَ على قصْد ابن عمٍّ له مُوسِر كان مُقِيمًا باليمن، فجاء إلى عمِّه وامرأته فأخبرهما بعزمه، فصوَّباه ووَعَداه ألاَّ يُحدِثا حدثًا حتى يعود.
وسار في ليلة رحيله إلى عفراء، فجلس عندها ليلةً هو وجواري الحي يتحدَّثون حتى أصبحوا، ثم ودَّعها وودَّع الحي وشدَّ على راحلته، وصحبه في طريقه فتَيَان من بني هلال بن عامر كانا يألفانه، وكان حيَّاهم متجاورَيْن، وكان في طول سفره ساهِيًا يكلِّمانه فلا يفهم فكرةً في عفراء، حتى يرد القول عليه مرارًا، حتى قَدِم على ابن عمه، فلقيه وعرفه حاله وما قدم له، فوصَلَه وكَساه، وأعطاه مائةً من الإبل، فانصرف بها إلى أهله.
وقد كان رجل من أهل الشام من أسباب بني أميَّة نزَل في حي عفراء، فنَحَر ووَهَب وأطعَمَ، وكان ذا مال عظيم، فرأى عفراء، وكان منزله قريبًا من منزلهم، فأعجبَتْه وخطبها إلى أبيها، فاعتذر إليه وقال: قد سميتها إلى ابن أخٍ لي يعدلها عندي، وما إليها لغيره سبيل، فقال له: إني أرغبك في المهر، قال: لا حاجةَ لي بذلك، فعدل إلى أمِّها، فوافَق عندها قبولاً، لبذله ورغبة في ماله، فأجابَتْه ووعدته، وجاءت إلى عقال فآذَتْه وصخبت معه، وقالت: أي خيرٍ في عروة حتى تحبس ابنتي عليه وقد جاءها الغنيُّ يطرق عليها بابها؟! والله ما ندري أعروة حي أم ميت؟ وهل ينقلب إليك بخير أم لا؟ فتكون قد حرمت ابنتك خيرًا حاضرًا ورزقًا سنيًّا، فلم تزل به حتى قال لها: فإنْ عاد لي خاطبًا أجبته.
فوجَّهت إليه أنْ عُدْ إليه خاطبًا، فلمَّا كان من غدٍ نحر جزرًا عدَّة، وأطعَمَ ووهب وجمع الحي معه على طعامه، وفيهم أبو عفراء، فلمَّا طعموا أعاد القول في الخطبة، فأجابَه وزوَّجه، وساق إليه المهر، وحولت إليه عفراء وقالت قبل أن يدخل بها:
يَا عُرْوَ إِنَّ الْحَيَّ قَدْ نَقَضُوا عَهْدَ الإِلَهِ وَحَاوَلُوا الغَدْرَا
في أبياتٍ طويلة.
فلمَّا كان الليل دخَل بها زوجُها، وأقام فيهم ثلاثًا، ثم ارتَحَل بها إلى الشام، وعمد أبوها إلى قبر عتيق، فجدَّده وسوَّاه، وسأل الحي كتمان أمرها.
وقدم عروة بعد أيام، فنعاها أبوها إليه، وذهَب به إلى ذلك القبر، فمكث يختلف إليه أيَّامًا وهو مُضنًى هالك، حتى جاءَتْه جارية من الحي فأخبرَتْه الخبر، فتركهم وركب بعض إبله، وأخَذ معه زادًا ونفَقَة، ورحل إلى الشام فقدمها وسأل عن الرجل فأخبر به ودلَّ عليه، فقصَدَه وانتسب له إلى عدنان، فأكرَمَه وأحسن ضيافته، فمكث أيامًا حتى أَنِسُوا به، ثم قال لجاريةٍ لهم: “هل لك في يد تولينيها؟ قالت: نعم، قال: تدفعين خاتمي هذا إلى مولاتك، فقالت: سوءة لك، أمَا تستحي لهذا القول؟ فأمسك عنها، ثم أعاد عليها وقال لها: ويحك! هي والله بنت عمي، وما أحدٌ منَّا إلا وهو أعزُّ على صاحبه من الناس جميعًا، فاطرحي هذا الخاتم في صبوحها، فإذا أنكرت عليك فقولي لها: اصطبح ضيفك قبلك، ولعلَّه سقط منه، فرقَّتِ الأمَة وفعلتْ ما أمرها به.
فلمَّا شربت عفراء اللبن رأت الخاتم فعرفته، فشهقت، ثم قالت: اصدقيني عن الخبر، فصدقَتْها، فلمَّا جاء زوجُها قالت له: أتدري مَن ضيفك هذا؟ قال: نعم، فلان بن فلان، للنسب الذي انتسب له عروة، فقالت: كلا والله يا هذا، بل هو عروة بن حزام ابن عمي، وقد كتم نفسه حياءً منك.
وقال عمر بن شبة في خبره: بل جاء ابن عمٍّ له فقال: أتركتم هذا الكلب الذي قد نزل بكم هكذا في داركم يفضحكم؟ فقال له: ومَن تعني؟ قال: عروة بن حزام العذري ضيفك هذا، قال: أَوَإِنَّه لَعُروة؟ بل أنت والله الكلب، وهو الكريم القريب.
قالوا جميعًا ثم بعث إليه فدعاه، وعاتَبَه على كتمانه نفسه إياه، وقال له: بالرحب والسَّعَة، نشدتك الله إنْ رُمتَ هذا المكان أبدًا، وخرج وترَكَه مع عفراء يتحدَّثان، وأوصى خادمًا له بالاستِماع عليهما، وإعادة ما تسمَعُه منهما عليه، فلمَّا خلوا تَشاكَيا ما وجَدَا بعد الفراق، فطالَت الشكوى، وهو يبكي أحرَّ بكاء، ثم أتَتْه بشرابٍ وسألَتْه أنْ يشرَبَه، فقال: والله ما دخَل جوفي حرامٌ قط، ولا ارتكبتُه منذ كنتُ، ولو استحللت حرامًا لكنتُ قد استَحللتُه منك، فأنت حظِّي من الدنيا، وقد ذهبت منِّي، وذهبت بعدك فما أعيش، وقد أجمل هذا الرجل الكريم وأحسن، وأنا مستحٍ منه، ووالله لا أقيم بعد علمه مكاني، وإنِّي عالم أنِّي أرحَلُ إلى منيَّتي، فبكَتْ وبكى، وانصرف.
فلمَّا جاء زوجُها أخبرَتْه الخادم بما دار بينهما، فقال: يا عفراء، امنَعِي ابن عمِّك من الخروج، فقالت: لا يمتَنِع، هو والله أكرم وأشد حياءً من أنْ يُقِيم بعد ما جرَى بينكما، فدعاه وقال له: يا أخي، اتَّقِ الله في نفسك، فقد عرفت خبرك، وإنَّك إنْ رحلت تلفت، ووالله لا أمنعك من الاجتِماع معها أبدًا، ولئن شئتَ لأفارقنها ولأنزلنَّ عنها لك.
فجزاه خيرًا، وأثنى عليه، وقال: إنما كان الطمع فيها آفتي، والآن قد يئست، وقد حملت نفسي على اليأس والصبر، فإنَّ اليأس يسلي ولي أمور، ولا بُدَّ لي من رجوعي إليها، فإنْ وجدت من نفسي قوَّة على ذلك، وإلا رجعت إليكم وزرتكم، حتى يقضي الله من أمري ما يشاء.
فزوَّدُوه وأكرَمُوه وشيَّعوه، فانصرف، فلمَّا رحَل عنهم نكس بعد صلاحه وتماثُلِه، وأصابَه غشي وخفقان؛ فكان كلَّما أغمي عليه أُلقِي على وجهه خمارٌ لعفراء زوَّدَتْه إيَّاه؛ فيفيق.
قال: ولقيه في الطريق ابن مكحول عراف اليمامة، فرآه وجلَس عنده وسأله عمَّا به، وهل هو خبل أو جنون؟ فقال له عروة: ألك عنده علمٌ بالأوجاع؟ قال: نعم، فأنشأ يقول:
وقال أيضًا يخاطب صاحبَيْه الهلاليَّيْن بقصته:
قال: فلم يزل في طريقه حتى مات قبل أنْ يصل إلى حيِّه بثلاث ليالٍ، وبلَغ عفراء خبر وفاته، فجزعت جزعًا شديدًا، وقالت ترثيه:
قال: ولم تزل تُردِّد هذه الأبيات وتندبه بها، حتى ماتَتْ بعده بأيَّام قلائل.
أمَّا نسبه كما جاء في “الأغاني” (ج 6 / ص 162):