رواية ” أنفاس صُلَيْحة ” معالجة روائية لتاريخ وملابسات وآثار هجرة القبائل العربية إلى السودان ، وتزايد أعداد أفرادها وجماعاتها ، إلى الدرجة التي أغرتها في نهاية المطاف بتضييق الخناق على مملكة “علوة ” المسيحية وإسقاطها ، وانتزاع الملك منها في القرن الخامس عشر الميلادي ، لكي تسطِّر بذلك صفحة جديدة في تاريخ البلاد، مما غير وجهتها الحضارية، وكرَّس فيها شخصية وطنية جديدة ، تجسدت فيها غلبة الثقافة والتوجهات العربية والإسلامية بصورة حاسمة ونهائية.
الرواية تمزج بين الخيال والواقع والتراث والتاريخ، والروايات الشفاهية، للنسّابة التقليديين في السودان، وتلقي من خلال السرد الروائي الممتع والمشوِّق، بعض الأضواء الكاشفة على مرحلة مفصلية ومهمة للغاية من مراحل التطور التاريخي للسودان بأسره على الصعيدين السياسي والاجتماعي، وخصوصاً منطقة الوسط التي شهدت قيام مملكتي العبدلاب والفونج على التوالي ، ثم قيام التحالف المشهور بينهما بعد ذلك. تحكي الرواية عن الأحداث التي وقعت في “سوبا ” عاصمة مملكة “علوة ” التي انقض عليها العرب بقيادة “عبد الله جماع القريناتي القاسمي ” الملقب ب “عبد الله جماع ” ، فأسقطوها ، وخربوها خراباً صار مضرب مثل مشهور في السودان. كما تحكي قصة المرأة التي خربت سوبا والتي يطلق عليها العوام اسم ” عجوبة ” ، فتقول الرواية إنها في واقع الأمر هي الأميرة “دوانة ” أرملة أحد أمراء العنج في علوة، حيث تبرر الرواية سلوكها التخريبي، برغبتها في الانتقام من بعض منسوبي البلاط الذين قتلوا زوجها.
أما ” صُليحة ” فهي فتاة يتيمة والديها ، تنتمي إلى أسرة من الأشراف المغاربة الشناقيط. توفي والداها وهي صغيرة ، غب جائحة من وباء الطاعون ، اجتاحت قريتهم في بلاد السوس الأقصى بالمغرب ، فكفلها جدها وربّاها ، ووعدها بأن تسافر معه إلى الحج إلى الأراض المقدسة عبر بر السودان ، أي مملكة علوة. ولكنه اضطر إلى إخلاف وعده لحفيدته ، تحت إصرار ” الشيخ محمد ” الفقيه والمعلم بكتاب القرية ، بأن تبقى صليحة وديعة عنده بالكتّاب ، حتى تتعلم القرءان ، وكذلك خوفاً عليها من مشاق الرحلة الطويلة والمرهقة والمحفوفة بشتى صنوف المخاطر في ذلك الزمان. ولكن صُليحة تهرب من ” الخلوة ” ، وتنخرط في مغامرة رهيبة كادت تفقدها حياتها في سبيل اللحاق بجدها الذي كانت تحبه حبا جما ملك عليها أقطار نفسها ، بل كان يمثل بالنسبة لها كل شيء في حياتها. فتتنكر في زي فتى ، وترافق قوافل التجار والحجاج العابرة للصحراء الكبرى ، وتكابد صنوفاً من الرهق والعذاب ، حتى تصل إلى سوبا ، فيسعدها الحظ بمقابلة جدها ، ويجتمع شملهما مرة أخرى. وهنالك في بلاد علوة ، يطيب لهما المقام ، فتتزوج سودانياً من أصل مغربي أندلسي أيضا ، وتصير هي نفسها جدة لراوي هذه الرواية ، بل جدة لجد جده في الحقيقة. ولما كان الراوية صبياً مغرماً ومفتونا تستهويه قصص الماضي ، فإن جدته البعيدة “صُليحة ” هذه تحكي له ولنا سيرتها الذاتية منذ أن كانت طفلة في أرض المغرب، وجميع ما اكتنف حياتها ، إلى أن وصلت إلى سوبا ، ولقائها الدرامي بجدها ، وزواجها بسوبا وإقامتها بها ، وما رافق ذلك من أحداث مهولة تمثلت في الصراعات و التحولات التاريخية والحضارية الكبيرة التي شهدها السودان آنئذٍ.
الرواية تتناول مجالات تحركات وأماكن انتشار واستقرار القبائل العربية والسودانية ، وحركة القوافل والهجرات والتحركات السكانية عبر الصحراء الكبرى ومن وإلى بلاد الشمال الإفريقي ، فضلاً عن مجالات التاريخ السوداني والإفريقي الوسيط، واللغات واللهجات المغربية والألفاظ ذات الأصول الطارقية والأمازيغية، مما يؤهل الرواية لآن تكون سائغة وحرية بالرواج بكل تأكيد ، في سائر بلاد المغرب العربي الكبير.
أما الحيز الزماني ، أو السياق التاريخي الذي تتم فيه أحداث الرواية ، فيتطابق مع تلك الفترة التي تُعتبر بين سائر المؤرخين ، فترة مظلمة في تاريخ السودان بسبب شح المصادر التي تؤرخ لها أو انعدامها بالكلية. ألا وهي الفترة ما بين سقوط مملكة المقرة النوبية المسيحية بشمال السودان في القرن الرابع عشر، وسقوط مملكة علوة في خواتيم القرن الخامس عشر إلى مطلع القرن السادس عشر الميلادي. ولذلك فإن الرواية تشي بالحالة السياسية والاجتماعية والدينية والعقلية السائدة آنئذ ، كما وتصور أجواء الصراعات والدسائس والمؤامرات داخل بلاط مملكة علوة التي ساعدت على انهيارها ، علاوة – بالطبع – على الضغط والحصار الحربي الرهيب الذي فرضته القبائل العربية عليها.
وتنم الرواية عن طبيعة التركيبة السكانية لمنطقة “شرق النيل” بمنطقة الخرطوم الكبرى في تلك الحقبة ، حيث يكثر فيها ذكر العنج ، والنوبة ، والمحس ، والعبدلاب ، والفونج ، وجهينة ، والمغاربة ، مثل الشيخ ” حسوبة ود عبد الله ” في سوبا ، وكذلك الشيخ “لُقاني ” جد البطلة “صليحة ” وبالجملة فإن هذه الرواية تسوقنا حقيقةً ، في سياحة معرفية ووجدانية في غاية الامتاع والتشويق في دهاليز تاريخنا السياسي والاجتماعي الوسيط ، عبر معالجة روائية وفنية مبهرة ، مما يجعلها قمينة حقاً بالاطلاع.
فازت بجائزة كتارا للرواية العربية أكتوبر 2018