تنوعت مؤلفاته بين الأدب والعلم وأسس مراكز أبحاث
Oct 18, 2016
يرى المفكر السوداني عمر فضل الله أن تعدد الأعراق في بلده عنصر ثراء لمكونات الهوية. الباحث الذي تنوعت مجالات اشتغالاته وكتب الشعر والرواية، ينظر بعين الرضا إلى المشهد الأدبي في موطنه رغم ضعف الإمكانات وفقر المؤسسات.
هنا حوار معه:
الخرطوم ـ منى حسن:
• تنوعت مجالات عملك الابداعي، كيف تعرّف نفسك، الشاعر، المؤرخ، الروائي، خبير تقنية المعلومات، أم الداعية والمفكر الإسلامي؟
□ أحب أن أقدم نفسي عمر فضل الله الذي عرفه البعض شاعرا أو قرأه الآخرون روائيا أو عملوا معه خبيرا أو استمعوا إليه داعية أو حاوروه مفكرا وهي جميعها محاولات للوصول إلى عمر فضل الله الإنسان الحقيقي الذي لم أكُنْهُ بعد.
• «قيل للخليل بن أحمد: ما لك لا تقول الشعر؟! قال: الذي يجيئني لا أرضاه، والذي أرضاه لا يجيئني، تُرى هل هذا سرُ هروبك غير المُعلن من حقيقة كونك شاعرا، وانجذابك نحو الرواية والمؤلفات الأخرى؟
□ بدأت بالشعر باكراً جداً منذ عهد الصبا فغالبته وغلبني، لكنني صبرت عليه لعلمي أن من يجمع فيه بين الموهبة والدُّرْبة فيتقنه ويعلمه لابد سيكتب الرواية بلغة شاعرة، وسيقدر على مزج سحر الرّويٍّ في الشعر بفن الغواية في كتابة الرواية، فيصعد بها إلى ﻣﺮﺗﻔﻌﺎﺕ ﻋﺎﻟﻴﺔ ﻣﻦﺍﻟﺨﻴـﺎﻝ ﺍﻟﻔﻨﻲ العظيم، الذي لن يطاله من ليس من أهل النظم ولن يناله من لم يسمر مع شياطين الشعر في وادي عبقر هازجا وراجزا. ولو كتب الرواية من ليس هو من أهل القريض فلن يكتب رواية يطرب لها القارئ طرباً حقيقياً فالذوق الشعري هو الذي يمزج الرواية بلمسة العبقرية ليتذوقها القارئ كما يتذوق القهوة، وترقصه فصول الرواية كما ترقصه أوزان الشعر. لكنني حين سبحت في بحر الشعر وجدته صعباً طويلاً سلمه. وحين زلت به قدمي هربت من مضماره سرا ورضيت من الغنيمة بالرواية بعد أن عشت «زمان الندى والنوار» فعرفت كيف أتقمص روح الترجمان لأحلق مع «أطياف الكون الآخر».أما انجذابي لألوان المؤلفات الأخرى فقد أملته حادثات الليالي ومخترعات العصر فحملتني على التأليف والكتابة.
• كيف تنظر لمستقبل الرواية العربية في ظل الازدياد المطرد في عدد الروائيين- إن صحت التسمية- وهذا الاستسهال الكبير لفن الرواية، حيث يشهد المتابع للمشهد الأدبي العربي تحول القارئ العادي أو الصحافي أو السياسي فجأة إلى روائي ترحب به دور النشر!
□ من الطبيعي في ظل ضعف أو غياب النقد الأدبي المتوازن أن يزداد عدد الروائيين وينخفض مستوى فن الرواية. وهذا عرض خطير سوف يؤدي بالتأكيد لزهد القراء في هذا النوع من الفن رغم كونه يتصدر المشهد الثقافي الحالي جنبا إلى جنب مع الشعر. إضافة إلى ضعف التدقيق في النصوص الروائية والأدبية المقدمة إلى دور النشر، وجنوح كثير من هذه الدور للمنافسة والربح بدون النظر لمستوى المادة المنشورة. ولو امتنعت مؤسسات منح الجوائز في الدول العربية عن كونها مؤسسات مسيسة وانحازت للمنهجية العلمية في تقييم الروايات والحكم عليها فربما يؤدي هذا إلى ارتقاء مستوى فن الرواية العربية فيذهب الزبد جفاء ويمكث في الأرض ما ينفع الناس.
• يقول جون ماكسويل: «الموهبة لا تكفي أبدا، اكتشف الخيارات التي تأخذك لأبعد من موهبتك»، فما هي الخيارات التي ترى أن اتخاذها كان في صالح تنمية مواهبك وتطويرها؟
□ كان خيارا القرآن واللغة في أول عهدي بالدراسة، هما أفضل جناحين حملاني لأبلغ المستحيل، ولأسبر أغوار قدراتي العقلية والإبداعية. ثم خيار التغرب عن الأوطان في طلب العلا، والعلم بالأسفار، وتحمل الأخطار وما فيه من الفوائد حين تفتقت موهبتي عن أكمامها فأزهرت ما ترونه، أو ما سوف ترونه مما لم يحن أوان قطافه بعد.
• رغم احتشاد السودان عبر تاريخه الثقافي الحافل بأسماء شعرية وأدبية مؤثرة بعضهم ترك الدنيا مخلفا إرثا ثقافيا عظيما، وآخرون ما زالوا يرفدون الساحة الثقافية بإبداعاتهم، إلا أن أغلبهم ظلوا مغمورين قياسا لنظرائهم في الوطن العربي، فما سر هذا الغياب أو التغييب عن الساحة الثقافية العربية؟
□ مثقفو وأدباء السودان جنت عليهم تربيتهم التي تدعو إلى التواضع مع الزهد في الشهرة بين الناس، والرغبة في خمول الذكر، وعدم حب الصدارة . كما جنت عليهم مؤسساتنا الثقافية والإعلامية بضعف إمكاناتها الذي أدى إلى عدم قدرتها على تسويق إنتاجهم، فغرق نشاط أدبائنا في المحلية واستكان إلى حين، لكنه لم يمت بالإهمال. ورغم ما ذكرت إلا أنه يصفو لنا عدد غير قليل ممن ذاع صيته واشتهر وملأ الآفاق، مثلما أن وسائل الإعلام الجديد أسهمت كثيرا في التعريف بأعلام الثقافة والأدب من أهل السودان، فبقينا في الآونة الأخيرة ندهش العالم كل يوم جديد ببعض أبنائنا من عباقرة هذا الشعب المترع أدبا وثقافة.
• لديك كتابٌ عن تاريخ وأصول العرب في السودان، ولا يخفى على مثقف مُطلع أزمة الهوية التي يعاني منها السوداني. الهوية التي تتأرجح بين العربية التي لا تعترف بها نظرة العرب العنصرية للسودان، والإفريقية التي يستهجن أغلب الشماليين في السودان فكرة الانتماء لها، إلى أي مدى أسهمت هذه الأزمة في ما مر ويمر به السودان من أزمات، بدءا بالحروب الأهلية وانتهاء بتقسيمه الموجع، وما الحل في نظرك؟
□ أزمة الهوية نفسية في المقام الأول وهي ناتجة عن أزمة الثقة بين أبنائنا تحديداً بما يخص أصولنا وموروثنا التاريخي والثقافي والفكري. وقد نجح المستعمر في زعزعة الثقة وطمس الهوية عن طريق السياسات ومناهج التعليم عبرالأجيال لننسى أمجادنا، ولا نعرف قيمتنا الحقيقية فقبلنا ذلك وخنعنا واستطاع أن يحكمنا ويستغل خيرات أرضنا عبر تقسيمنا وزرع الفتنة في ما بيننا. أما الهوية السودانية فمحسومة لأن تعدد الأعراق عربيها وعجميها وتعدد الثقافات في الوطن الواحد هو عنصر ثراء لمكونات الهوية السودانية التي تميزنا بها، والأفريقية هي الأرض التي نعيش عليها. فالهوية هي الأرض أولا والتاريخ ثم البشر وثقافاتهم. والحل يكمن في مناهج التربية الوطنية للناشئة وفي النشاط الثقافي بين أبناء الوطن ليوثق ارتباط السودانيين وانتماءهم للأرض وليس للعرق.
• كلما زار أديب أو شاعر السودان لأول مرة نجده يكتب متفاجئاُ عما رأى ووجد، فما سر ضحالة ثقافة العرب عن السودان، وغيابه عنهم، والذي أدى إلى تصوير مشوه للإنسان السوداني في الإعلام العربي؟
□ السودان عاش عزلة مفروضة عليه أدت إلى جهل بقية الشعوب بهذه البلاد مثلما عاش تهميشا متعمدا منذ عهد الاستعمار. إضافة إلى تقصير أبنائه في التعريف به خلال العهود الماضية. وفي ظني أن كسر طوق العزلة هو مسألة وقت، فأبناء السودان الآن انتبهوا لهذه المسألة، مثلما أن الهجرات خارج الوطن هي عامل تنوير وتعريف بالسودان وأهله فليست الهجرة كلها نقمة.
• حركة هجرة المواطن السوداني إلى الخارج المتزايدة يوميا، والتي أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها هجرة عقول، إلام تعزوها؟
□ الهجرة كانت في السابق نتيجة تردي السياسات وفرص العمل وهبوط مستوى دخل الفرد عبر الأنظمة السابقة مع زيادة الغلاء وارتفاع الأسعار، لكنها تضاعفت في هذا العهد نتيجة عدم التوازن بين مخرجات المؤسسات التعليمية وسياسات الاستيعاب والتعيين، وعدم تكافؤ الفرص. فاضطرت العقول للهجرة حينما حرمت من حقوقها في الداخل، وأتيحت لها الفرص خارج الوطن، واستفادت منها بعض الدول بذكاء.
• كيف تنظر لتجربة ومستقبل حكم الحركة الإسلامية في السودان، ورؤيتك لسودان ما بعد الحوار الوطني؟
□ الحركة الإسلامية في السودان فاجأت العالم بأنها أخفقت في أول اختبار حقيقي وهو اختبار السلطة والحكم، رغم تمتعها بأعداد غير قليلة من العقول والخبراء في مختلف التخصصات والمجالات. وفي تقديري، انتهى عهد تنظيمات الحركات الإسلامية فالعالم لم يعد يتقبل فكرة التنظيمات الأيديولوجية لكنه يتقبل فكرة منظمات المجتمع المدني. وبذلك فلا مجال للحركة إلا التحول لمنظمات مجتمع مدني فاعلة إن أرادت البقاء والاستمرار. أما رؤيتي لما بعد الحوار الوطني فلست متفائلا كثيرا بما بعد مخرجات الحوار، لأنه لم يجمع كل ألوان الطيف في السودان وإنما اقتصر على الحوار بين فئة الأحزاب السياسية وحركات التحرر فقط وبذا لم يكن حوارا حقيقيا يستوعب فئات الشعب وإنما هو حوار بين السياسيين مع أنفسهم. وهو حوار بين غير أهله ومع غير أهله. فهؤلاء المتحاورون من الأحزاب السياسية هم من ضيع الوطن وظلم أهله. لا أرى في ظل ما يدور إلا المزيد من التخبط والظلام، بل إن قراءتي الواقعية تقول إن المقبل اسوأ من الماضي، وأسأل الله اللطف بأهل السودان جميعا.
• كانت لك تجربة العمل في وظيفة حكومية في السودان في فترة حكم الإنقاذ، كيف تقيم تجربتك فيها، ولم اتخذت قرار الهجرة إلى الخارج؟
□ لم أعمل موظفاً في وظيفة حكومية في السودان في عهد الإنقاذ، لكنني شاركت في أعمال قومية تمثلت في إنشاء مؤسسات التخطيط القومي والاستراتيجي ومؤسسات المعلومات وتقاناتها، بالإضافة إلى مشاريع أخرى. وذلك في بداية عهد الإنقاذ ووجدت نفسي أعمل بين شركاء متشاكسين تغولوا على هذه المؤسسات ووأدها، ثم لم يندموا بل أصروا على ما فعلوا وهم يعلمون، رغم أن هذه المؤسسات في بداية عهدها قامت بأدوار كبيرة في التأسيس لبنية التخطيط الاستراتيجي والمعلوماتي. وأما قرار الهجرة فاتخذته حين يئست من الإصلاح فهاجرت ولسان حالي يقول:
مَتى يَبلُغُ البُنيانُ يَوماً تَمامَهُ ** إذا كُنتَ تَبنيهِ وَغَيرُك يَهدِمُ
وَإِن عَناءاً أَن تُفهِّم جَاهِلاً ** فَيَحسَب جَهلا أَنَّهُ مِنكَ أفهَمُ
مَتى يَنتَهي عَن سَيء مِن أتى بِهِ ** إذا لَم يَكُن مِنهُ عَلَيهِ تَندَمُ
• كيف تنظر لواقع المشهد الأدبي السوداني؟
□ المشهد الأدبي السوداني بخير، فقد شهدنا ميلاد كثير من الأدباء من الشعراء والروائيين وغيرهم في الآونة الأخـــــيرة. وشهدنا نشاطا كثيفا وحماسا وانتشارا، بل واحــتفاء بالأدب وأهله، رغم ضعف الإمكانات وفقر المؤسسات وقلة الحيلة.
من العيلفون إلى أمريكا
عمر فضل الله من أبناء العيلفون، تلك القرية السودانية الغافية على ضفاف النيل الأزرق التي ما إن يرد اسمها حتى تقفز إلى ذاكرتنا حلقات القرآن الكريم، و(خلاويه).
حفظ القرآن الكريم مبكراً، وكان من المتفوقين دراسيا في كل المراحل بدءا بالمرحلة الابتدائية، وحتى دخوله في العشر الأوائل على مستوى جمهورية السودان في الثانوية، أكمل دراسته الجامعية في جامعة الملك عبدالعزيز في جدة، وتخرج في كلية علوم الاتصال، ومن ثم سافر إلى أمريكا حيث نال درجة الماجستير والدكتوراه في تقنية المعلومات من جامعة كاليفورنيا، عاد ليعمل في المملكة العربية السعودية حتى عام 1991. ثم عمل محاضرا في الجامعات السودانية ومؤسسا لعدد من مؤسسات ومراكز البحوث والدراسات، حيث أسس مركز الدراسات الإستراتيجية، والمركز القومي للمعلومات في السودان، وأسهم في إنشاء المكتبة الوطنية السودانية.
ثم هاجر إلى دولة الإمارات العربية المتحدة عام 1996حيث يعمل حالياً مديراً لمشاريع تقنية المعلومات وأنظمة الحكومة الإلكترونية في أبوظبي. صدر له عدد كبير من المؤلفات الأدبية والعلمية والبحوث باللغتين العربية والإنكليزية نذكر منها: «حرب المياه على ضفاف النيل (حلم اسرائيل يتحقق – دراسة عن سد النهضة الإثيوبي وآثاره)، «ترجمان الملك» (رواية)، «أطياف الكون الآخر» (رواية)، «زمان الندى والنوار» (شعر)، «زمان النوى والنواح» (شعر)، تحقيق كتاب «تاريخ وأصول العرب في السودان» للفحل الفكي الطاهر الذي صدر في الخرطوم في 2015.
المصدر: القدس العربي http://www.alquds.co.uk/?p=615118
اضف تعليقا